على مدى ثلاثة أشهر تعرّضت غزة لشتى أنواع القصف والإبادة، من عدوٍّ حاقدٍ قد انتُزعت إنسانيته حتى استهدف بصواريخه وآلته العسكرية عشرات الآلاف من المدنيين العزّل جلُّهم من النّساء والأطفال.. وفي حين تحققت مقولةُ «الكفرُ ملّةٌ واحدةٌ»، باجتماع الفرقاء الغربيين على أهل فلسطين والذين أمدّوا الصهاينة بكلّ أنواع الدعم الإعلامي والسياسي والعسكري –خُذلت «غزة» من أنظمتنا العربية والإسلامية، إلّا قليلًا منهم، وإلّا شعوبًا توّاقة إلى نصرتهم حبستها حدود «سايكس بيكو» أو قيود وضعتها حكومات المنطقة، وإلّا شعوبًا غربية ضرّها ما يضرّ الإنسان الذي لا زال على فطرة الله التي فطر النّاس عليها.
واجب مقدس
وإنّ واجب أمتنا –لو تعلم- عظيم تجاه «غزة الحبيبة»، وتجاه فلسطين على العموم، فإنّ ذلك واجب أولًا: لما تقتضيه النّخوةُ العربية، وثانيًا: للمخاطر الجغرافية وتحديات الأمن القومي العربي؛ ولأنّ ذلك البلد العريق هو قلب الشرق، وثالثًا والأهم: لأنّ فلسطين -التي تمتد حدودها التاريخية من «رأس الناقورة» شمالًا إلى «أم الرشراش» جنوبًا، ومن نهر الأردن شرقًا إلى البحر المتوسط غربًا- هي موطنُ المقدّسات، وقد حباها الله منزلة كبيرة كوْنها مسرى رسول الله ﷺ، وبها بيتُ المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين، وموطئ النبيين والصديقين، وهي بذلك جزء من العقيدة الإسلامية، وأرضها وقفٌ على جميع المسلمين لا يجوز لأحد، كائنًا من كان، أن يفرّط فيها أو يتنازل عن شبر منها؛ فهي ليست ملكًا للفلسطينيين أو للعرب وحدهم، بل ملك للمسلمين أجمعين.
مطامع اليهود في فلسطين
ولتعلم الأمّة أيضًا أنه منذ وقتٍ مبكر سعى اليهودُ إلى الاستحواذ على فلسطين، واتخاذها وطنًا قوميًّا لهم دون بلدان أخرى عُرضت عليهم كبديل؛ لما لهم فيها من ذكريات، ولتحقيق حلمهم التلمودي المزعوم بإقامة دولة كبرى من الفرات إلى النيل، بل تمتد أطماعهم إلى مقدسات المسلمين؛ ففي خطتهم تدمير المسجد الأقصى وإقامة الهيكل مكانه، وفي ذلك يقول بن جوريون: (لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل).. والقضية الآن تمرُّ بأخطر مراحلها، وبين النصر والهزيمة –لا سمح الله- أداء الواجب المستحق تجاه هؤلاء المجاهدين الذين يدفعون عن الأمة بأسرها خطر الكفر والإجرام، ثمنًا فادحًا من أرواحهم وممتلكاتهم.
أدوار وواجبات على الجميعِ
في ظلّ هذه المحرقة على أهلنا في «غزّة»، والتي لا مثيل لها في العصر الحديث، لا يصح أن ينسحب أحدٌ من ساحة المعركة، وهي ساحةٌ ممتدة باتساع العالمين العربي والإسلامي، كما لا يصح أن يتم الاعتماد على العمل الجماعي وحده، بل يلزم أن يعمل كلٌّ على شاكلته، وربّ درهم سبق ألف درهم، وما انهزم الأحزاب في الخندق –بعد فضل الله- إلّا بتخذيل «نعيم بن مسعود»، رضي الله عنه، للمشركين، وقد أمره النبي ﷺ بذلك بقوله: «خذِّل عنّا يا نُعيْم».. والآن تعددت الوسائل، ولم يعد هناك عذرٌ لأحد في عدم مساندة إخوته، وتكثير سوادهم، وتعظيم عدّتهم، وفي المقابل تخذيل عدوّهم وشقّ صفّه وإحداث الذعر بين قطعانه وشذّاذه الوافدين من شتى الآفاق.. وتلكمُ أدوارٌ واجبةُ الأداء، وعلى أصحابها الالتحام بالصفوف حتى يأتي الله بأمره: نصرًا للمؤمنين، وجلاء وانحسارًا للمجرمين:
الدور الإعلامي
لا شيء ينكِّلُ بالعدوّ في زمن الحرب –بعد القنابل والصواريخ- مثل الإعلام، حتى سقطت دولٌ أمام خصومها بفضل التأثير السلبي على جيوشها وشعوبها قبل أن تغزوها عسكريًّا، وقد رأينا مؤخرًا دور «السوشيال ميديا» في تصدير القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية، وتحريك شعوب الغرب لنصرة الغزيين بالتظاهر والفاعليات المتنوعة، وفضح الزيف الصهيوني والردّ على إفكه وتفنيد أكاذيبه.. وقد هيأت الثورة الإعلامية المعاصرة الأفراد لأن يكونوا إعلاميين، بل صار بعضهم بمستوى مؤسسة إعلامية ضخمة، تأثيرًا وسعة انتشار؛ فوجب على آحاد الأمة دخول هذا المعترك، والمشاركة فيه ولو بشطر كلمة، دعمًا لإخوانهم، ودحضًا للباطل، ونقل الحقيقة إلى كل الدنيا إن استطاع.. والمسئولية مضاعفة على الإعلاميين المهنيين؛ فوجب عليهم التوعية بالقضية، وتوضيح حقيقة الخطر اليهودي على المنطقة، وعلى مقدسات المسلمين، وأن ينهضوا لتلك المهمة على أسرع وأحسن ما يكون النهوض.
الدور الدعوي
على علماء الأمة الواجبُ الأكبرُ في هذه القضية؛ لما أخذ الله عليهم من ميثاق لتبيين الحق وعدم كتمانه، وقد قال –تعالى- فيهم: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب: 39]؛ فصار منوطًا بهم تحريك شعوبهم، وقيادتها إلى ساحات النصرة، وتعرية العدو ومن يقفون معه، وتحريض المدعوين على البذل والعطاء بالمال إذ هو صنو الجهاد بالنفس، وأن يبينوا للناس تاريخ اليهود المعادي للإسلام والمسلمين، وأن يشرحوا لهم معنى الجهاد، وأنه فريضة ماضية إلى يوم القيامة، وفضل تجهيز المرابطين، وأن أهل «غزة» مجاهدون مقاومون يحتاجون إلى الدعم والتأييد، وأنه لا يبغضُهم إلّا منافقٌ مارقٌ عن الإسلام.. كما على الدعاة عبء بث روح الأمل والتفاؤل في المدعوين، وأن يؤموهم إلى الطاعات التي تستجلب النصر؛ من صيام وقيام ودعاء وقنوت كما كان يفعل المعصوم ﷺ في نوازله وحروبه.
الدور السياسي
يسبق الدورُ السياسيُّ في هذه القضية كلَّ الأدوار، ويتخطاها إلى درجة تُوازِي العمل العسكري ومهام الساعد والسلاح؛ فبالعمل السياسي –الذي تقاعست عنه الأنظمة- يمكن منع العدوان، ومساندة المقاومين بدرجة تدفع عنهم أخطارًا عظيمة يخطط لها هذا العدو المجرم.. فوجب تنظيم الفاعليات من مظاهرات واعتصامات وخلافه، وحشد الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي، بما يمثل ضغطًا على الأنظمة وسفارات وقنصليات الدول الأجنبية للتحرك لوقف الحرب وفكّ الحصار وإنهاء الاحتلال ورفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني، وإعلان رفض مبادرات تسوّل السلام والمفاوضات الهشّة مع العدو، والتي تقرّه على اغتصاب الأرض المباركة، وفضح وكلاء الصهاينة.. ويدخل في هذا الدور الشعبي المهم: تفعيل المقاطعة بكلِّ أنواعها، والعمل على استمرارها ومأسستها وتدويلها للمحافظة على قوتها في التأثير، إضافة إلى اختراع السُّبل الضامنة لتدفق العوْن المالي على المجاهدين؛ ليتجاوزوا به أزمتهم، وليقفوا به في وجه محاولات الإبادة والتهجير، وليتمكنوا من إنجاح مشروعهم في صناعة توازن الرعب مع العدو، وما يعقبه من تحرر وتمكين.. وينضوي تحت هذا الدور أيضًا: الرد على الشبهات التي يثيرها المبغضون؛ من التشكيك في رموز وجماعات المقاومة، وفي أسلحتهم، وفي قراراتهم وأنهم جرّوا الأذى على قومهم وأوقعوهم في المحنة، وغيرها من الشبهات التي يسهل الرد عليها.
أدوار أخرى
وهنالك أدوارٌ وواجباتٌ أخرى على باقي فئات المجتمع لا يتسع المقام لتفصيلها، نشير إليها وهي: الدور الأسري أو العائلي، والدور التعليمي أو الجهاد العلمي، والدور الشبابي أو الطليعي، والدور النسائي أو واجب المرأة للانتصاف لأهلنا في «غزّة» وفي سائر فلسطين.. وفي داخل كلٍّ منها عشرات المهام، ولا ننكر أنها موجودة وفاعلة، لكنها تحتاج إلى تأصيل وتنظيم وتنسيق وتعاون مجموعاتي، محلي وقُطري، بما يثري العمل ويحقق الهدف، ويدفع عن إخوتنا آثار تلك المحنة القاسية.