سلمة بن أبي سلمة رضي الله عنه كلنا يعرف هذا الاسم، وعمر بن أبي سلمة رضي الله عنه كلنا نسمع به من قبل، ورغم أن أخبارهما لا تملك الرنين الذي تثيره أخبار كبار الصحابة، فإننا لا نملك إغفالهما في حديث وجهته التعرض لشباب تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم، وربما يكون من نافلة الحديث وإعادته أن نقول: إنهما ربيبا النبي صلى الله عليه وسلم، إنهما ابنا أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها.
كان سلمة أسنّ من عمر، ومنذ رزق به أبوه وأمه غلبت عليهما الكنية وعُرِفا بأبي سلمة، وأم سلمة.
ذكر ابن إسحاق أن سلمة ولد بالحبشة، وورد في «الإصابة»، و«أسد الغابة»، أن عمر بن أبي سلمة ولد بالحبشة، وفي حديث أم سلمة: لمَّا أجمع أبو سلمة على الخروج إلى المدينة، رحَّل بعيرًا لي، وحملني وحمل معي ابني سلمة، ثم خرج يقود بعيره، ولم تأتِ رضي الله عنها على ذكر لعمر.
وقال ابن الأثير: ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة، ثم أضاف: وقيل: إنه كان له يوم قبض النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين، ولئن صح هذا يكون مولده في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة؛ لأنه لا خلاف على أن النبي صلى الله عليه وسلم قُبضَ سنة إحدى عشر من هجرته الشريفة.
ويدفع هذا القول قول ابن حجر في «فتح الباري»: وقد ذكر ابن عبدالبر أنه ولد في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة، وتبعه غير واحد، وفيه نظر بل الصواب إنه ولد قبل ذلك، فقد صح في حديث عبدالله بن الزبير أنه قال: كنت أنا وعمر بن أبي سلمة مع النسوة يوم «الخندق»، وكان أكبر مني بسنتين، ومولد ابن الزبير في السنة الأولى على الصحيح فيكون مولد عمر قبل الهجرة بسنتين(1).
ونستأذن لنضيف: لئن وُلِدَ عبدالله بن الزبير رضي الله عنه في السنة الأولى من الهجرة، وكانت يوم «الخندق» (الأحزاب) سنة 5هـ، فيكون عبدالله بن الزبير في الخامسة من عمره تقريباً، ولئن كان عمر بن أبي سلمة أكبر منه بسنتين فيكون في السابعة من عمره؛ فيصح لنا أن نقول: لنغض الطرف عن هذا الخلاف أو ذاك الاختلاف؛ لأن الوقوف على الصحيح منه أمر لا غناء فيه، ولندع الأحداث الصِّحاح ذات الغناء تدلو بدلوها.
بشوق نادر خرج أبو سلمة بزوجته وولده مهاجراً إلى المدينة الطيبة التي أوقد الإسلام فوق أرضها مصابيحه، يومذاك عرفت الدنيا قصة أليمة الوقع والصدى، وكان للطفل سلمة بن أبي سلمة من فصول ألمها نصيبه، وليس أكثر بياناً لها من أن نجتليها من قصة أمه السيدة أم سلمة(2) وعلى لسانها، تقول رضي الله عنها: لما أجمع أبو سلمة على الخروج إلى المدينة، رحل بعيرًا لي وحملني وحمل معي ابني سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلمَّا رآه بنو المغيرة المخزوميين قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد؟ ونزعوا خطام البعير من يده وأخذوني، وغضب عند ذلك بنو عبدالأسد، وأهووا إلى سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.
فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد رهط أبي سلمة، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة حتى لحق بالمدينة، فَفُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني، فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح(3)، فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبها، حتى مرَّ بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ابنها، فقالوا لي: الحقي بزوجكِ إن شئتِ.
وردَّ عليّ بنو عبدالأسد عند ذلك ابني فرحَّلت(4) بعيري، ووضعت ابني في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق الله، فقلت: أتبلَّغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن أبي طلحة(5)، فقال: إلى أين يا بنت أبي أُميَّـة؟ فقلت: أريد زوجي بالمدينة، فقال: هل معك أحد؟ فقلت: لا والله، إلَّا الله وابني هذا، فقال: والله ما لكِ من مترك، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يقودني، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب أراه كان أكرم منه، إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدَّمه، ثم استأخر عني، وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقادني حتى ننزل، فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي إلى المدينة، فلمَّا نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجكِ في هذه القرية، فادخليها على بركة الله، وكان أبو سلمة نازلاً بها، ثم انصرف راجعاً إلى مكة.
وكانت تقول رضي الله عنها: ما أعلم أهل بيت أصابهم في الإسلام ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن أبي طلحة.
وفي الدراسة الخاصة بالسيدة أم سلمة عقَّبنا على الخبر قائلين(2): لنا أن نطوف حول الخبر متخيِّلين السيدة ممزقة المشاعر بين زوجها الغريب في بلاد غريبة، وطفلها الذي خُلِعَت يده ويحتجزه أهل أبيه غضاباً كارهين، عام كامل مرت أيامه ولياليه، بل وساعاته ودقائقه بين تباريح شوق ضاغط، ونبضات ألم مرّ يمزقان نياط قلبها الذي يكاد يقفز من بين ضلوعها من هول طرقات الشوق والألم.
عام كامل تخرج إلى الأبطح، تجلس في سهوم وشرود تحلق ببصرها، وفكرها، وروحها، وعلى مرآة عينيها تثبت ملامح زوجها وطفلها سلمة، وتسائلهما: أنَّى السبيل إليكما؟ وتجيب نفسها بنفسها: لا سبيل أراه، حتى هيَّأ الله عز وجل لها أسباب اللقاء بهما.
وكما أسلفنا، لم يرد في الخبر ذكر لعمر بن أبي سلمة، وربما أكد ذلك القول بأنه ولد في المدينة في العام الثاني الهجري.
بينما أشرف اسم سلمة من الأحداث غير مرة، غير أنه توارى عن نظر التاريخ عامة سيرته، ولم يبرز له إلا نادراً، فذكره حين زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم من أمه أم سلمة، وذكره حين زوَّجه النبي صلى الله عليه وسلم من أُمَامَة بنت حمزة.
وجمع ابن إسحاق الخبرين في حديث واحد، فقال: حدثني من لا أتهم عن عبدالله بن شدَّاد(6)، قال: كان الذي زوَّج أم سلمة من النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة ابنها، فزوَّجه النبي صلى الله عليه وسلم من أمامة بنت حمزة، وهما صبيان صغيران، فلم يجتمعا حتى ماتا، فقال صلى الله عليه وسلم: «هل جزيت سلمة»(7).
وعقَّب ابن حجر على الخبر قائلاً: وأمَّا ما وقع من أنهما لم يجتمعا حتى ماتا فالمراد أنها ماتت قبل أن يدخل بها، ومات هو بعد ذلك، وقال ابن الكلبي: مات سلمة قبل أن يجتمع بأمامة، وزعم الواقدي أن سلمة عاش إلى خلافة عبدالملك بن مروان! وقال ابن الأثير: لا تعرف له رواية(8)، وليس له عقب.
وفي خبر تزويج عمر للنبي صلى الله عليه وسلم من أمه أم سلمة، قال البلاذري: إن الذي زوَّجه صلى الله عليه وسلم إياها ابنها عمر، فعن عمر بن أبي سلمة أنه قال: إن أم سلمة لما انقضت عدتها، خطبها أبو بكر فردته، ثم عمر فردته، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: مرحباً، أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنِّي غَيْرَىَ(9)، وأنِّي مُصْبِـيَةٌ(10)، وليس أحد من أوليائي شاهداً، فبعث إليها صلى الله عليه وسلم: «أمَّا قولكِ: أنِّي مصبية، فإن الله سيكفيكِ صبيانكِ، وأمَّا قولكِ: أنَّي غَيْرَىَ، فأدعو الله أن يُذْهب غيرتكِ، وأمَّا الأولياء، فليس أحد منهم إلَّا سيرضى بي»، فقالت: يا عمر، قم فزوِّج رسول الله(11)، وقال ابن الأثير وغيره: وسلمة أثبت.
وهكذا نستطيع أن نُحَدِّس بأن سلمة كان يؤثر الأحداث ذوات اللون الهادئ، يأنس بها وإليها، فجاء بروزه في أحداث سيرته موافقاً لما يؤثره.
أما بروز أخيه عمر لناظري التاريخ فجاء أقوى وأبين، حيث ورد ما يدلل على تأديب النبي صلى الله عليه وسلم له، وصناعته على عينه في بواكير أيامه، وفي هذا المعنى يقول عمر نفسه: كنت غلاماً في حجر(12) رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصَّحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك»، يقول عمر: فما زالت تلك طعمتي بعد(13).
تمهلنا مع الحديث لأنه ينتظم شاهداً بيناً على حدسنا بأن عمر صُنِعَ على عين النبي صلى الله عليه وسلم، أو على الأقل نهل من معين هديه كما نهل أخوه سلمة، وأختاه زينب، ودرة، فلا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يغض الطرف الشريف عن توجيهه إلى آداب الطعام، كان يفعل ذلك معه وإخوته كلما تراءى له من أحدهم سلوكاً عازه التقويم حتى أشبع مذاهبهم واتجاهاتهم تعليماً وتوجيهاً، كما أشبعهم مودة وحنواً، فعاشوا تُعْجِزهم كلمات الثناء، وما نفهمه أنهم كانوا وما زالوا موضع غبطة لأنهم عاشوا في الكنف الشريف ما شاء الله لهم من عيش.
وعود سريع إلى عمر، قلنا: كان بروزه لناظري التاريخ أقوى من أخيه سلمة، فيذكر أنه كان يوم غزوة «الخندق» مع النساء في أُطُم(14) حسان بن ثابت رضي الله عنه(15)، وأنه في شبابه عمل والياً على البحرين من قبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان قد شهد معه موقعة «الجمل».
يشي الخبر بإيجابية عمر بن أبي سلمة، وإخلاصه للمبدأ الذي كان يراه صواباً، ولكنه كان الخبر قبل الأخير، فقد توارى بعده عن قلم التاريخ ولم يسجل عنه بعده إلَّا الخبر الأخير؛ حيث مات بالمدينة سنة 83هـ في خلافة عبدالملك بن مروان.
ولا خلاف حول استشهاد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه سنة 40هـ، وكان عمر من أنصار عليّ، فهل كان في ظهور الأمويين ما أدى إلى تواريه نحو 43 عاماً؟ لسنا أكيدين، ولكننا يقينون من أنه كان وما زال وسيبقى موضع غبطة، وما زالت سيرته تزدهي وتفخر وتزدان بالعبارة الخاصة والنادرة جداً «ربيب النبي صلى الله عليه وسلم»، وما أنفسها من عبارة(16)!
________________________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (5376).
(2) انظر: «نساء وبنات النبي صلى الله عليه وسلم»، للمؤلف، ط. دار التوفيقية للتراث بالقاهرة.
(3) المكان المتسع يمر به السيل فيترك فيه الرمل والحصى الصغير، مفرد: أباطح، والمراد الصحراء.
(4) وضعت عليه الرحل وجهزته للركوب.
(5) كان عثمان بن أبي طلحة لا يزال على دين قومه، وأسلم رضي الله عنه في هدنة الحديبية، وهاجر إلى المدينة مع خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأقام مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وفي «فتح مكة» دفع صلى الله عليه وسلم إليه وإلى ابن عمه شيبة مفاتيح الكعبة وقال: «خذوها خالدة تالدة، ولا ينزعها منكم إلا ظالم»، ولما توفي صلى الله عليه وسلم انتقل عثمان بن أبي طلحة إلى مكة وأقام بها حتى استشهد يوم «أجنادين» في خلافة عمر رضي الله عنه، أسد الغابة (3580).
(6) أخو أمامة بنت حمزة لأمها أسماء بنت عميس رضي الله عنهم.
(7) أخرجه البيهقي (7/ 122)، وابن سعد (8/ 114) بإسناد ضعيف.
(8) يعني عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(9) شديدة الغيرة.
(10) ذات صبيان صغار.
(11) أخرجه ابن سعد (9018)، والنسائي (6/ 81، 82)، وقال ابن حجر في الإصابة: إسناده صحيح (12065).
(12) في تربيته وتحت نظره، وأنه صلى الله عليه وسلم رباه في حضنه تربية الوالد.
(13) حديث صحيح أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022).
(14) حصن.
(15) حديث صحيح، أخرجه مسلم (2416).
(16) راجع: سيرة ابن هشام (1/ 345) (2/ 315)، والبداية والنهاية (3/ 169)، والإصابة (3395) (5756) (12065)، وأسد الغابة (2172) (3836) (7472).