لما كانت الصهيونية حركة عنصرية، واتخذت من الجانب العسكري الإرهابي هدفاً لها لتنفيذ مآربها؛ لذا فإن المجتمع «الإسرائيلي» الذي نجحت في إقامته في فلسطين عام 1948م مجتمعاً عسكرياً إرهابياً بامتياز، فإن السنوات الخمسين بين إنشاء «الحركة» عام 1897 وقيام «الدولة» 1948م كانت هي أيضاً فترة عمل عسكري يسير إلى جانب العمل السياسي والدولي وإنشاء المؤسسات وتأهيل الذات لمرحلة الدولة.
فمثلما أفرز الاستيطان اليهودي مستعمرات تتوزع بين نوعي الكيبوتز والموشاف، أفرز نوعاً ثالثاً عسكري الطابع، هو الناحال، وكانت الناحال مستوطنات خاصة بالجنود تتوزع مواقعها على الأماكن الإستراتيجية؛ أي أنها كانت قلاعاً حربية تحت عنوان مدني، وكانت بالتالي رديفاً وقواعد للنشاط الإرهابي والتخريبي ضد العرب المسلمين.
ومثلما أفرز الاستعداد الصهيوني مؤسسات للشباب تعمل للهدف الاستيطاني ودمج المهجرين إلى فلسطين، أفرز أيضاً مؤسسة «الجدناع»، وكانت أشبه بالجسر الذي يعبر به الصهيوني من موقعه المدني إلى موقعه العسكري داخل عملية التهيؤ للقتال من أجل إنشاء «الدولة».
غير أن البنية الحربية للحركة الصهيونية في عهد الانتداب تمثلت في المنظمات الإرهابية الصرفة، وإن كانت «الهاجاناه»، التي حملت صفة رسمية إلى حد ما وكانت علنية وتشكل جهازاً شرعياً في آلية التعاون البريطاني – الصهيوني لتحقيق «وعد بلفور»، وكذلك «البالماخ»، ذراعها العسكرية الضاربة تعمل تحت جناح الوكالة اليهودية مباشرة، وتأتمر بأوامر المنظمة الصهيونية العالمية التي كان «الماباي» (حزب العمل) فيما بعد يشرف عليها؛ أي أنها كانت تجلس في أحضان السلطة.
فإن منظمات إرهابية أخرى كانت تعمل تحت جنح الظلام وتفتك بالمواطنين العرب، وقد أتاح لهذه المنظمات الإرهابية غير الرسمية أن تتحرك بحرية وتبطش بشدة بمخطط جهنمي تفتقت عنه مخيلة القيادة الصهيونية (في المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية في فلسطين)، وهو أن يرخي العنان للمنظمات الإرهابية لتجول وتصول ضد العرب في السنوات العشر التي سبقت إنشاء «الدولة»، بينما تتنصل القيادة السياسية الرسمية المعترف بها المنظمة والوكالة من أعمالها ولا تكون مسؤولة إلا عن تصرفات «الهاجاناه»، وهكذا وزع النشاط بين المنظمات الإرهابية: الرسمي منها (الهاجاناه) يضرب بسيف الشرعية، وغير الرسمي وأبرزها «الأرغون وشتيرن» تتصرف على هواها وتبطش وتقتل دون وازع أو ضمير!
وبهذا الصدد لا يمكن نسيان الإرث الإرهابي للعقيدة الصهيونية الذي تمثل في هذه المنظمات «غير الشرعية» بقيادة منظرها فلاديمير جابوتنسكي (1880 – 1940م)؛ أحد أبرز القادة الصهيونيين الإرهابيين بعد هرتزل، وكان منافساً رئيساً لحاييم وايزمان (1874 – 1952م) الذي تولى قيادة المنظمة ما بين عامي 1905 و1948م، وكان الفارق الأساسي بين تلميذي ثيودور هرتزل (1860 – 1904م) معلمهما الأكبر، الوفيين له، كل منهما على طريقته أن وايزمان ومدرسته ومريديه أخفى نواياه العدائية والتوسعية والإرهابية تحت جبة النشاط السياسي والسعي الدبلوماسي، واستطاع بذلك أن يؤمن الحصول على براءة «وعد بلفور» في قسم من فلسطين، وأن يقيم صك الانتداب البريطاني على فلسطين على أساس الالتزام بتنفيذ الوعد أمام أكبر هيئة دولية (عصبة الأمم)، وأن يتبجح في استيراد جماعات كثيرة من المهاجرين اليهود الجدد ويقيم لهم المستوطنات والكيبوتزات ويحصل لهم على الأراضي والأموال والأعمال، وأن يؤسس للمجتمع اليهودي في فلسطين أيام الانتداب «دويلة إرهابية» داخل دولة.
أما جابوتنسكي، فكان لا يخفي نواياه العنصرية والإرهابية، ويكشف عن طموحاته التي لا حدود لها، ولا يقتنع بالمرحلية والتدرج في تحقيق الأهداف؛ أي أن الاثنين التقيا في الهدف واختلفا في نقاط التشديد وسلم أولويات هذا الهدف؛ ألبس وايزمان القوة جلباب السياسة، أما منافسه فألبس السياسة جلباب القوة، حملت يد وايزمان من أدوات الاتصال والتفاوض وأخفى أدوات الحرب في جيبه، وحمل جابوتنسكي السلاح في يده حتى وهو يجري اتصالات سياسية ويتفاوض، وركز وايزمان على فلسطين التاريخية في حدود الانتداب قاعدة للانطلاق، بينما انفتحت القاعدة شرقاً عند جابوتنسكي فشملت ضفتي نهر الأردن وما وراءه حسب وعد التوراة!
وطبخ الرجلان طبقاً واحداً، إنما بمذاقين مختلفين، بسيطرة الحركة العمالية على المنظمة العالمية أيام الانتداب، وبدأ الاختلاف بين الطريقين نحو الهدف المشترك يتسع، وصار هناك غالب ومغلوب، فانشق جابوتنسكي عن المنظمة وأسس «المنظمة الصهيونية الجديدة»، وسماها أتباعه الكُثر «الحركة التصحيحية»، وسماها خصومه «الحركة التحريفية».
وما يهمنا هنا من هذا الصراع السلمي في غالبه بين الاتجاهين على امتداد عشرين سنة أن حركة جابوتنسكي كانت الخلفية التي انطلق منها الإرهاب «غير الرسمي» حتى عام 1948م، وأظهر جابوتنسكي من خلالها إعجابه الشديد ببطولات الأجداد في العهد القديم من التوراة في ذبح العمالقة أهل فلسطين القدماء وسكانها الأصليين بعد الغدر بالمصريين ومقاتلتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم ومواشيهم ونسائهم بالقوة، والتعامل مع جيران فلسطين بالغطرسة، ودعا إلى إحياء تلك «البطولات» وممارسة تلك الأساليب الهمجية والوحشية من أجل الظفر بفلسطين من جديد! ودعا أيضاً إلى دراسة فنون الحرب والقتال عند اليهود القدامى بتعمق.
وكان جابوتنسكي معجباً، في الوقت نفسه، بزعامتي هتلر، وموسوليني، ولحق به مريدوه ينشئون له الآلية للتعبير عن هذه الشراسة والهمجية مقابل المحاولات السياسية التفاوضية الظاهرة النفاق التي كان حزب العمل (الماباي) يتبعها.
وتجدر الإشارة إلى أنه تحت سقف «الجابوتنسكية» قامت ثلاث أو أربع منظمات إرهابية، نسقت مع «الهاجاناه» سراً وانفردت جهراً بتحمل مسؤولية اعتماد الإرهاب سبيلاً إلى السلطة، وانبثق عن «المنظمة الصهيونية الجديدة» التي حلت نفسها في الأربعينيات وعاد رجالها إلى المنظمة الأم، أي الصهيونية العالمية، حزب سياسي رئيس هو حزب «الحيروت»، بزعامة الإرهابي مناحيم بيغن (1913 – 1992م)، انبثق عنه، فيما بعد، تكتل الليكود، وهكذا انتقلت القيادة الجابوتنسكية من مؤسسها إلى بيغن إلى شامير إلى نتنياهو؛ خط إرهابي يتعاطى السياسة، في مقابل الخط السياسي الذي يتعاطى الإرهاب من بن غوريون إلى إشكول إلى مائير إلى رابين إلى بيريز إلى باراك، خطان متوازيان وصفحتان لورقة واحدة.
تبدلت الحال، شكلياً، بعد قيام «الدولة» عام 1948م وانضمام المنظمات الإرهابية الأرغن وشتيرن إلى الجيش الصهيوني الذي كانت «الهاجاناه» قوامه الأساسي، فمثلما ورثت «الدولة» مسؤولية اليهود في العالم، وادعت تمثيلهم والنطق باسمهم وإدراك مصالحهم والاستيلاء على حقوقهم، ورثت أيضاً الجانب الإرهابي/ العسكري/ التخريبي/ العنصري من الحركة الصهيونية، وأصبحت هي المسؤولة عن قرار تنفيذه وإداء عملياته، وأصبح الإرهاب الصهيوني، كله، رسمياً، يدار من فوق، من أجهزة الدولة، علناً أو سراً، وهكذا لم يعد هناك، في العقود السبعة الأخيرة إرهاب رسمي وغير رسمي وشرعي وغير شرعي وإرهاب فئوي متعدد المسؤوليات، أصبح لدينا إرهاب واحد برأس وعقل وقرار واحد؛ إرهاب «دولة» هي دولة إرهاب واندمج مع «الدولة» واندماجه مع الحركة الصهيونية العنصرية.
من هنا كان تاريخ «إسرائيل» تاريخ حرب متواصلة وليس بين دول العالم المعاصر، أو بين المائة والتسعين دولة التي تنتمي إلى الأسرة الدولية، غير «إسرائيل» التي تاريخها هو تاريخ إرهاب وحروب متواصلة، هناك أنظمة عسكرية، وهناك دول تحارب، ولكن ليس هناك غير الدولة الصهيونية، من كانت العسكرية صفتها اللازمة والباقية في حالات الحرب والسلم، لقد قال بن غوريون، عند إعلان دولة «إسرائيل»: «بالدم والنار».