لئن كان هناك من الأخبار ما يقع في النفوس وقعًا حلوًا، ويشدَّها إليها رباط من الود وثيق، وربما لا تدري سببًا لهذا الرابط غير حسٍّ مريح تبعثه في تعبها، فإن خبر دُرَّة بنت عبد العُـزَّى يأتي فَرَطًا لهذا النوع من الأخبار، وغير مرَّة يوجه إلينا هذا الحسُّ المريح الدعوة للوقوف مع دُرَّة بنت عبد العُــزَّى فلبَّـينا دعوته هنا.
وإذا لم تصرح المصادر بعمر دُرَّة، وفي أي المراحل كانت تدرج على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها قد ألمحت إليه وأفادت بأنها كانت في مرحلة الشباب، نستوحي هذا الاستشفاف التاريخي من قول التاريخ:
أسلمت، وهاجرت إلى المدينة، وكانت عند الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، ومن المعروف أن الحارث كان شابًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فَـنُـسَـلم بتوافقها معه في مرحلة الشباب لمَّا تألم ابن عمها النبي صلى الله عليه وسلم لألمها أشد الألم، وارتقى منبره معاتبًا: «ما لي أوذى في أهلي..»، وأنزلها منزلتها منه قائلًا لها: «أنتِ مني وأنا منكِ».
وهنا أُحني رأسي، وأُفسح المجال لأبي هريرة رضي الله عنه ليقصَّ علينا خبرها الشائق رغم زفرات الشجن في كلماته، يقول رضي الله عنه: قَــدِمَـت دُرَّة بنت أبي لهب المدينة مهاجرة، فنزلت في دار رافع بن المعلى الزرقي، فقال لها نسوة جلسن إليها من بني رزيق: أنتِ ابنة أبي لهب الذي يقول الله فيه: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد: 1) فما تُـغني عنكِ هجرتك؟
ونستأذن أبا هريرة في هذه المداخلة فنقول: أن يُـعَـيَّر الإنسان بأحد ذوي رحمه لخطاياه ومثالبه، أو جرائره ومعايبه(1)، فهذا أمر يصعب عليه تقبله، فما الظنُّ لو عُـيّر الإنسان بخطايا أبيه، بينما هو في سيره وسيرته لم تشبه شائبة؟
تمامًا كما حاولت بعض النسوة الغض من منزلة السيدة دُرَّة بنت عبد العُـزَّى المعروف بأبي لهب، لا لشيء إلا لكونها بنت أبي لهب، وأم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان والمعروفة بـ«حمالة الحطب»، ولم تختر هي أباها أو أمها، ولا قدرة لها على تصريف قدرها، فلمَ يجعلنها ضحيته؟!
أما أسلمت لله عز وجل قيادها، وهاجرت فيه سبحانه، وفي رسوله صلى الله عليه وسلم؟ لماذا يثرن إحساسها بماضي أبيها المشين، ويُـشْعِـرنها بأنها إنسانة منكوبة؟!
لمّ لا يترفقن بها، وهي حديثة عهد بالهجرة؟ تركت في الله الأهل والديار، وضربت في الأرض العريضة إلى ديار غريبة، وعازها من يحنو عليها، ويدعها تشعر بأنها مقبولة وأنف إسراف أبيها في الكفر راغم.
لا ريب أن هذه الخَـوَاطِر جالت وصالت شجينة بخَـلَدِها(2)، قاسية بخاطرها(3)، لمَّا قلن لها ما قلنه وكأن الله عز وجل يحاسب الابن بجريرة أبيه، أو يأخذ الوالد بإثم والده! ومعاذ الله وحاشاه، وسبحانه حيث قال في أكثر من موضع كتابه الخالد: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الزمر 7)، قال ابن كثير في تفسير الآية: أي لا تحمل نفسٌ عن نفسٍ شيئاً، بل كلٌّ مُطالب بأمر نفسه.
وأذهل دُرَّة ما سمعته! بيد أنها كانت شديدة الاعتزاز بشرفها وكرامتها، فلئن كان أبوها هو أبو لهب، فإن ابن عمها هو النبي صلى الله عليه وسلم، وبلهجة أسيفة آذنته(4) صلى الله عليه وسلم بخبر النسوة معها.
إنه حديث مرجفات(5) لأنهن قلن ما قلن بمحض إرادتهن، ولكنهن بلا ريب كنَّ جاهلات بالأمر وحُكْمِه، والجاهل يُـعْـذَرُ بجهله.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم أقل من ابنة عمه حزنًا وتألمًا، وودَّ أن يرفع عن كاهلها الرقيق ما يؤلم نفسها ويؤسيها، فأنزلها منزلة خليقة(6) برفعها إلى ذؤابة(7) المنازل، أنزلها منزلتها منه، وكان ذلك قمينًا(8) بدفع موجات متتالية من الراحة إلى أغوار نفسها.. كيف؟
لنسمع من أبي هريرة تتمة خبرها، قال رضي الله عنه: فأتت دُرَّة النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ما قلن لها، فسكَّنها، وقال: «اجلسي»، ثم صلى بالناس الظهر، وجلس على المنبر ساعة، ثم قال: «أيها الناس، ما لي أوذى في أهلي؟ فوالله إن شفاعتي لتنال بقرابتي حتى إن صداء، وحكم، وسلهم(9) لتنالها يوم القيامة»(10).
وعادت دُرَّة مُـحـمَّلة القلب بأعظم وأكمل ما يُـحمَّل به قلب بشر من شكر وامتنان، وطفقت تتقلب في أعطاف المنزلة المرموقة التي خلعها عليها ابن عمها صلى الله عليه وسلم، وتنهل من نعمائها، ولم يدع النبي صلى الله عليه وسلم ابنة عمه وشأنها، وإنما كان يجدد محاولاته الناجحة في إكرامها وتكريمها، فيقر لها بمنزلتها منه كلما ألفى سانحة لذلك.
تحكي دُرَّة رضي الله عنها فتقول: كنت عند عائشة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال «ائتوني بوضوء»، فابتدرت أنا وعائشة الكوز، فأخذته أنا فتوضأ صلى الله عليه وسلم، فرفع بصره (أو طرفه) فقال: «أنتِ مني وأنا منكِ»(11).
ولم يتوقف التاريخ عند السيدة دُرَّة طويلًا، فقط تمهل عندها حتى سجل عنها ما أسلفناه، غير أنه سجل عنها أيضاً قوله: وتزوجها الحارث بن نوفل فولدت له عقبة، والوليد، وأبا مسلم.
وقال أيضًا: تزوجها زيد بن حارثة، ولعل ذلك قبل أن يتزوجها الحارث بن نوفل.
وأضاف التاريخ: وقيل: وتزوجها دحية بن خليفة الكلبيّ، وكانت تُطعم الناس.
ونقول قبل وداع السيدة درَّة: فأمَّـا زيد بن حارثة فيعرفه القاصي والداني، ويُـنْـزِله منزلته الصغير والكبير، وأمَّا الحارث بن نوفل، ودحية بن خليفة الكلبيّ، رضي الله عنهما، فلم ينالا من الذيوع والانتشار في ذاكرة التاريخ الإسلامي، ونفوس المسلمين، لذا تعرضنا لهما في سلسلة «شباب تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم».
وكأننا بالسيدة دُرَّة رضي الله عنها كلما وقع في ذاكرتها تألُّم ابن عمها صلى الله عليه وسلم من أجلها، ونهلها من نعماء المنزلة الشريفة التي خلعها عليها يوم وقف من أجلها موقفه الشريف وقد مدّت بصرها إلى نعماء الشفاعة الشريفة والنهل منها حتى أصعدها قدرها إلى هناك(12).
____________________________
(1) جمع جريرة، وهي الجناية، والذنب، والمعايب والمثالب بمعنى واحد، فالمثلبة هي العيب.
(2) حزينة، والخَلَدُ: البالُ والنَّـفْسُ، والجمع: أخلاد.
(3) ما يَـخْطـرُ بالقلب من أمر، أو رأي، أو معنى، والجمع خواطِرُ.
(4) كثيرة الحزن والرقة، وآذنته: أعلمته.
(5) الخوض في الأخبار السيئة، وذكر الفتن بقصد إيقاع الناس في الاضطراب.
(6) جديرة.
(7) قمة، والذُّؤابة من كل شيء أعلاه.
(8) حقيق وجدير.
(9) صُـدَاء وحَـكَم: هي قبائل من أهل اليمن، وسلهم: في نسب اليمن، وذكرها ابن حجر في الإصابة «سلهب».
(10) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد (3165)، والطبراني في الكبير (24/ 259) برجال ثقات غير عبد الرحمن بن بشير الدمشقي.
(11) أخرجه الإمام أحمد (6/ 432).
(12) مسند الإمام أحمد (6/ 431)، طبقات ابن سعد (8/ 50)، طبقات خليفة (330)، الإصابة (11154)، أسد الغابة (6905).