فلسطين قضية العرب والمسلمين المركزية؛ فهذه الأرض المباركة أرض المسرى والأقصى، وهي أرض الرباط والبطولات، وهي محطة أساسية للصراع بين الشرق والغرب، وفيها تسفر مشاريع الاستعمار والاستيطان عن وجهها الخبيث.
وفي الانتصار لهذه الحقائق الدينية والتاريخية الراسخة، وأيضًا في مواجهة هذا الزيف والتوحش الغربي، وأداته متمثلةً في الكيان الصهيوني، فإن الشرف والفخر والبطولة هو من نصيب أصحاب الأرض والحق؛ الذين لا يبخلون عن قضيتهم ومقدساتهم، بما يملكون؛ ويضحون بكل غالٍ ونفيس.. ويا له من شرف وفخر وبطولة!
إن الدفاع عن أي بلد من بلاد الإسلام شرف كبير وفخر عظيم لمن يقوم به، في الدنيا والآخرة؛ ويمنح صاحبه درجة «الشهادة» إن مات في سبيل ذلك ابتغاء مرضاة الله، فكيف بالدفاع عن أرض المسرى والأقصى، التي بارك الله تعالى ما حولها؛ قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الإسراء: 1).
وفي الأحداث المتتابعة التي نعيشها منذ السابع من أكتوبر، بعد «طوفان الأقصى» الذي افتتحت به المقاومة صفحة ناصعة من صفحات البطولة والإبداع؛ رأينا مؤشرات الإعجاب والانبهار بهذا الأداء الرائع للمقاومة، تسجل أعلى درجاتها، حتى صارت المقاومة برموزها الميدانية والإعلامية والسياسية محطَّ الإعجاب والفخر.
وهنا نشير إلى أن هذا الشرف والفخر، الذي تحوزه المقاومة وأهلها الصابرون المرابطون المضحُّون، يمكن أن يناله آخرون أيضًا، حتى لو لم يشاركوا المقاومة عملها وتضحياتِها في ميدان المواجهة المباشرة مع العدو الغاصب.
فالمقاومة شرف كبير غير مقصور على الميدان المباشر للمواجهة؛ وذلك لأمرين أساسين:
الأول: أن المقاومة مفهوم واسع لا يقتصر على الفعل المباشر؛ وإنما لها وجوه كثيرة، ويدخل فيها كل فعل يؤثر في المجرى العام للمواجهة؛ سواء كان ذلك بكلمة واعية، أو بإعلام مساند، أو بتبرع، أو بمقاطعة.. أو غير ذلك مما يدعم المقاومة في تثبيت أقدامها، والذود عنها.
الثاني: أن العدو الصهيوني، ومِن ورائه الغرب الاستعماري، لا يمارس عدوانه بالآلة العسكرية وحدها، وإنما يستخدم كل أوجه العدوان؛ قتلاً وهدمًا وتشريدًا وتهجيرًا وتزييفًا وتدليسًا وتثبيطًا.. ومن ثم، كان لا بد من التصدي لهذا العدوان، وعلى جميع المحاور التي يسلكها، وبالأدوات نفسِها التي يتبعها، وهذا عمل كبير جدًّا، تشترك فيه الأمة من وراء المقاومة البطولية في أرض فلسطين.
فضل المقاومة بصورها المختلفة
إذن، هناك مقاومة بطولية في الميدان المباشر على أرض فلسطين، وهناك مقاومات بطولية في مختلف الميادين غير المباشرة، وهي ميادين تمتد بامتداد ساحات الصراع وأدواته.
وفي النوع الأول: جاءت أحاديث كثيرة تبين أهميته وفضله؛ منها حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِن أحَدٍ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيا، وأنَّ له ما علَى الأرْضِ مِن شيءٍ، غَيْرُ الشَّهِيدِ؛ فإنَّه يَتَمَنَّى أنْ يَرْجِعَ، فيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِما يَرَى مِنَ الكَرامَةِ» (متفق عليه).
وأيضًا حديث أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليسَ شيءٌ أحبَّ إلى اللَّهِ من قَطرتينِ وأثَرينِ؛ قطرةُ دموعٍ من خشيةِ اللَّهِ، وقطرةُ دمٍ تُهَراقُ في سبيلِ اللَّهِ؛ وأمَّا الأثرانِ فأثرٌ في سبيلِ اللَّهِ، وأثرٌ في فريضةٍ من فرائضِ اللَّهِ» (رواه الترمذي وقال: حديث حسن).
وفي النوع الثاني: جاء حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنَ المَدِينَةِ، فَقَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ» (متفق عليه). وفي رواية لمسلم: «إِلَّا شَرِكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ»؛ أي شاركوكم في الأجر.
فمن فاته شرف المشاركة في الميدان المباشر، أمامه ميادين كثيرة يمكن أن يشارك فيها، وينال شرفَ المقاومة وأجرهَا الكبير.
ميادين المقاومة
ومن هذه الميادين الكثيرة للمقاومة، التي بها نحقق نصرة القضية، ونشارك أهل الميدان المباشر، في شرف جهادهم وثوابهم الكبير:
1- المقاومة بالمال:
إن تحرير الأرض والمقدسات عمل ضخم يستلزم إعدادًا وإمكانات؛ ولهذا كان الجهاد بالمال مقرونًا بالجهاد بالنفس، بل وذُكر مقدَّمًا عليه في مواضع كثيرة، قال تعالى: (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة: 41).
فمن فاته شرف المقاومة بالنفس، أمامه شرف المقاومة بالمال، ودعم الحاضنة الشعبية للمقاومة، التي يراد لها أن تنقلب على المقاومة، من خلال تجويعها ومنع الغذاء والدواء عنها، فضلاً عن إعادة إعمار ما هُدِّم من المنازل والمؤسسات الطبية والتعليمية وغيرها.. وكل ذلك يحتاج إلى المقاومة بالمال.
2- المقاومة بالكلمة:
أي بالكلمة الواعية التي تدعم القضية وتنشر حقائقها، وتذود عنها الشبهات والأكاذيب، وتَعْظُم أهميةُ المقاومة بالكلمة في عصرٍ تزداد فيه مكانة الكلمة والصورة، وتحقق فيه الكلمة المؤثرة والصورة المعبرة أثرًا كبيرًا في إيضاح الحقائق، وكسب المزيد من المؤيدين والمتعاطفين، حتى من الغربيين أنفسِهم، الذين تحاصرهم الأدوات الإعلامية الغربية بسردياتها الكاذبة، وتقف حاجزًا بينهم وبين معرفة الحقيقة والتعاطف مع أصحاب الحق.
وهنا، نسجل ثناءً كبيرًا بقدرة المقاومة على التوظيف المبدع لبياناتها المكتوبة والمرئية، خاصة تلك التي ترصد بطولات الميدان وإبداع العمل على الأرض، حتى لقد عجزت الآلة الإعلامية الصهيونية عن تقليدها!
3- المقاومة بالسياسة:
أي دعم المقاومة في مطالبها المشروعة، وتوفير بيئة سياسية ضاغطة لحفظ مكتسبات المقاومة وإنجازاتها، ولردع المعتدي ومحاصرته في أروقة السياسة الدولية، وكشف مخططاته وجرائمه.
وكم كان مهمًّا الخطوة التي اتخذتها دولة جنوب أفريقيا، بتقديم طلب إلى محكمة العدل الدولية لاتخاذ إجراءات ضد الكيان الصهيوني، واتهامها بارتكاب أعمال إبادة ضد الشعب الفلسطيني.
لقد وجد الكيان الصهيوني نفسه في موضع المتهم، بعد أن ظل يتاجر لعقود بما يقول: إنه مورس عليه؛ واستفاقت الشعوب الغربية على جرائم الاحتلال، وأصبحنا نرى نقدًا متزايدًا للممارسات الصهيونية في وسائل الإعلام الغربية بعد أن كان ذلك ممنوعًا تحت ضغط التخويف بمعاداة السامية فكيف لو توافر للمقاومة بيئة سياسية عربية داعمة، أفضل مما هو حاصل الآن!
4- المقاومة بالتربية:
أي تربية الأطفال والشباب على حب فلسطين، وبيان أهميتها ومكانتها لهم، وكشف جرائم الاحتلال؛ حتى تنشأ هذه الأجيال وتتابع مسيرة المقاومة في تحرير الأرض وحفظ المقدسات؛ وحتى لا يجرفها تيار التطبيع الذي يعمل على تشويه الحقائق وغسل العقول؛ ليتمكن من استبدال مشاعر العداء الراسخة في قلوب الشعوب العربية، المنحازة لدينها ولفطرتها.
فمن المهم مواصلة هذا النوع من المقاومة؛ فهو ضمان حقيقي لقطع الطريق على مخططات العدو الصهيوني وحلفائه؛ الذين يتاجرون بشعارات السلام، ويراهنون على أجيال ناشئة لا تعرف القدر الكافي عن القضية وتاريخها وحقائها.
ويا للعجب، فإن الكيان الصهيوني نفسه هو من يتكفل بإبقاء وعي الأجيال الناشئة حيًّا ومنحازًا لفلسطين! وذلك بما يمارسه هذا الكيان الغاصب من عدوان مستمر، ومن جرائم يندى لها جبين الإنسانية، وتمثل صدمة قوية لكل ذي ضمير حي، بل وتدفع كثيرين ليتساءلوا: لِمَ كل هذا العدوان والإجرام؟! وما ذنب الفلسطينيين أن يُحرموا من أرضهم؟! بل ما سر صمودهم البطولي أمام آلة القتل والتدمير الهمجيين؟!
نعم، إن للمقاومة وجوهًا كثيرة، يمكن لنا من خلالها أن نشارك في نصرة قضية العرب والمسلمين المركزية، وأن ننال شرف الدفاع عن أرض المسرى والأقصى، وهذا حق علينا، وشرف كبير لنا.