لقد حدثنا القرآن الكريم والسُّنة النبوية المشرفة عن السفن والفلك حديثاً متنوعاً في تناوله ومنبهاً لأنوار زواياه، ومن أشهر هذا التناول في كتاب الله عز وجل، كسفينة المساكين في قصة الخضر، وسفينة نوح عليه السلام التي كانت معجزة في حد ذاتها في صنعها وبنائها واستيعابها وقوتها وإبحارها، مما دهش المارون بها –من غير المؤمنين- وقت صنعها من صانعها عليه السلام، متى وكيف تعلم هذا وأتقنه؟! ومن صُنعها وتشييدها في تماسك قوي وتفصيل مبدع، مع سخريتهم لبنائها- غروراً وكبراً- في مكان لا بحر معه ولا ساحل يدنو منه، ولا حاجة إليها!
لم تكن هذه السفينة وسيلة انتقال وعبور من مكان لمكان، أو حمل تجارات ومؤن لشعوب ودول، إنما كانت سفينة نجاة دعي إليها كل من آمن من كل الأجناس والأمم، سفينة تشابه أهلها في كل شيء تكويناً ومقصداً ومحبة واستسلاماً، سفينة حمل نفس مقوماتها وإستراتيجية تفعيلها واتحاد أهدافها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن سفينة الأمة الإسلامية، ليرفع شعاراً لأمته بنداءات متعددة في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة: (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا) (هود: 42).
فعند البخاري عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا».
وحتى تتضح الصورة ونعي النداء، إليكم معالمها المهمة وتنبيهاتها المستمرة من منارة السُّنة وفنار الراشد الكريم صلى الله عليه وسلم:
أولاً: إرساء على شاطئ النجاة وفتح أبواب الصعود:
إن السفينة إذا كانت للنجاة فهذا يعني أنه لا مكان آمن خارجها، وأن طوفان الفتن وأمواج الشرور وتقلبات الأحداث باتت تدفع المسلمين إلى الاحتراز والمنعة وطلب السلامة، كما كانت سفينة نوح عليه السلام، فقد مثلت السفينة الملاذ الآمن والتجمع الفريد للأفراد الطاهرين والفئات المتنوعة من أمم المؤمنين، فهي حصن على الماء يحمي من يدخله من كل من في خارجه ممن أراد أن يفتك به، ولذلك توالت النداءات من كل الأتقياء والمصلحين والخائفين على أمتهم من جلل المصائب وانتكاس الفِطَر لمأمن إلهي وجمع رباني، فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم نفسَ النداءات التي نادى بها نوح عليه السلام لأمته وأهله.
ثانياً: إرشادات السلامة وتعليمات الأمن:
قد جاء حديث السفينة الذي بثه لنا النبي صلى الله عليه وسلم على بعض من التعليمات الآمنة وإرشادات السلامة للوصول إلى مرسى السفينة الآمن على ميناء الجنان، لا تبحر السفينة بدونها ولا تهاون معها، وإليك أهمها:
1- التأكيد على اتحاد الجميع: فالجميع لا بد أن يكون متحداً، وبالتعليمات ملتزماً، وبالأخوة الإيمانية معتصماً، فما أجمل الاتفاق على التوافق الكامل للراكبين فيها! فتراهم قد جمعتهم وحدة العقيدة التي يحتاجها الراكبون في طريقهم، فلا النجاة ولا الفوز وكذا الأمن إلا لأصحاب هذه القلوب المؤمنة بربها والمتعلقة به سبحانه، وكذا جمعتهم وحدة الاتباع لقائد السفينة ومُسَيّرُها وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لا معرفة بها ولا بطريقها وجهتها إلا عن طريقه، والجميع ممن صعد متفق على ذلك مؤكد به، ووحدة الهدف والغاية إذا الكل يريد النجاة والخلاص من فتن الحياة ومدلهمات الزمن ما لا يستطيع رده ولا يقوى على دفعه فكان صعودهم إليهم للخلاص منها والوصول بما حملوه من طهر التكوين ومثابرة المسير إلى غايتهم التي من أجلها تعبوا وفي سبيلها نصبوا إلى النجاة في الدنيا والفوز بالآخرة، وكل ذلك من صفات أهل الإيمان الذين قال الله فيهم: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، وقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) (النور: 62).
2- المسؤولية الجماعية والمصير الواحد: فالمسؤولية الجماعية حاضرة بين الجميع كل من سكن السفينة أعلاها أو أسفلها، فليس هناك فردية في القرار، ولا حرية مطلقة في المصير، بل يجب أن يتحلى ويحرص الجميع على سلامة الجميع حتى الوصول إلى بر الأمن ومرفأ الجنة.
ولذلك أعلن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قبل أن تبحر السفينة بصوت عال بين جميع من صعد؛ طاقماً وركاباً، هذه المسؤولية هي التي حذر من فقدها وتوابع تحريفها القرآن الكريم، حيث قال تعالى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً (الأنفال: 25)، وفي قوله: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (المائدة).
وقد أقرت السُّنة هذه المسؤولية الجماعية وخاصة عند المغرم كما جاء في حديث: «الدية على العاقلة» حيث جعل المسؤولية الجماعية تتحمل هذا وكأنها كما في أفراد السفينة فرد واحد.
3- الاستيعاب لا الإبعاد: وهذا يقرره الحديث، فلماذا عند الخطأ وفساد الرأي لم يكن من فوقهم متخذاً لقرار الإبعاد والطرد؟! بل قدم قرار الاستيعاب والاحتواء، وخاصة أن هناك من بينهم رجلاً أخذ معولاً وحاول أن ينفذ الرأي يريد أن يخرق السفينة، كما في رواية عند البخاري؟!
الحقيقة أنهم فهموا أن الاستيعاب مقدم على الإبعاد، وأن القوم يريدون النجاة بمجموعهم ويحبون الخير لغيرهم، وأن جمال السفينة في التحامل والاحتواء خاصة لمن شرد أو جهل مصداقاً لقوله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) (الفتح: 29)، وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وكما في حديث أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ قَالَ: «إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا تَقُولُ».
4- الأخذ باليد والأخذ عليها: فالجميع بين يد تمنع الخطأ وتأخذ على يد صاحبه، واليد الأخرى تأخذ بيد المخطئ تعلمه وتنقله لدائرة الإصابة والاتباع.
5- انتفاء الأحقاد والضغائن: فهذا التقسيم بين من سكن الأعلى ومن سكن الأسفل إنما هو مؤقت حتى يحدث التوازن الدنيوي وتستطيع السفينة أن تصل بأمان إلى رصيف الجنان، عندها تختلف الأمور ويسكن الجميع درجات الجنان والجميع منعّم.
6- الجميع يحتاج الجميع: وهذه طبيعة المتحدين والمتعاونين في الخير، فمن فوقها يحتاج ثقل من يسكن أسفلها وصيانة سفينتهم لا تتم إلا من خلالهم، ومن في الأسفل يحتاجون ما عند من فوقهم من زاد ينزل وماء يشرب وتوجيه يبحر، فلا تسير السفينة ببعضهم، بل بجميعهم.
7- حسن النية لا يكفي في صلاح العمل: فالحديث يؤكد هذا المعنى، فليست النية الحسنة بمفردها تنجي، لا بد أن يتبعها عمل صالح ونافع وصحيح، فهؤلاء في نية خرقهم لما في نصيبهم كانت حسنة ولكنها تجهز على الجميع إن تحولت لعمل، إذ العمل فاسد وهو نابع من جهل وانعدام معرفة؛ (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) (فاطر: 8).
8- أهمية الإبحار بالعلم: وليس بالكثرة ولا بالقوة وحدها تصل، بل قد تغرق، وقد رأينا أهمية العالمين وأصحاب التخصص والدراية كيف أن وجودهم مهم وسرعة تدخلهم في الخطوب منجٍّ، وحق لهم أن يسكنوا أعلى السفينة، لكن عين ملاحظتهم للجميع موجودة وتدخلهم السريع منقذ.
هذه نداءات اركب معنا التي جللتها سفينتنا التي أخبرنا بها نبينا وحملنا في سُنته عليها، فهل من محقق لها وجامع الآن لأفرادها؟! فقد حان وقت الحمل وعودة الطمأنينة وإدراك النجاة، وما هي إلا لحظات في عمرنا وترسو سفينتنا على شاطئ الأمن واستقبال الملائكة ببشريات الجنان.. فهل من مجيب للنداء وصاعد معنا؟