لا توجد دولة عظيمة تعرّضت لتشويه وتزييف متعمدين، وبتخطيط مستمر لما يقارب القرنين من الزمان، مثل دولة الخلافة العثمانية، ذات التاريخ الممتد لأكثر من 600 عام (1299 – 1924م)، فقد بدأ التشويه في أدبيات السياسة الأوروبية بإطلاق مفهوم «المسألة الشرقية»، أو بالأدق «رجل أوروبا المريض»، في إشارة إلى ترقب القوى الاستعمارية الغربية وسعيها لإسقاط هذه الإمبراطورية الضخمة، التي كانت رمزاً لوحدة المسلمين، وظهراً حامياً لشعوبهم، وتمثّل النموذج القائد لأقطاره وأقاليمه الممتدة؛ لما لها من نفوذ روحي، يعود إلى مكانة السلطان العثماني بوصفه خليفة المسلمين.
ذلك اللقب الذي ناله السلطان سليم الأول (875 – 926هـ/ 1470 – 1520م)، بعدما نجح في هزيمة طومان باي في معركة «الريدانية» عام 1516م، وأسقط دولة المماليك، وقد تنازل له محمد بن يعقوب المُتوكِّل على الله، آخر الخُلفاء العباسيين، الذي كان يقيم بالقاهرة في ظل حكم المماليك، عن لقب الخلافة وشاراتها، لتصبح الدولة العثمانية دولة الخلافة رسمياً.
الشعوب العربية خُدِعت بشعارات التحرر وأن سبب تأخر العالم الإسلامي يعود للدولة العثمانية!
لقد تمحورت دعاوى الاستعمار الغربي ضد الدولة العثمانية بأنها سبب نكبة المسلمين وتأخرهم، وأنهم فرضوا على المسلمين العزلة والتخلف والجهل، وأذابوا شعوب المسلمين في هويتهم التركية ولغتهم، والحقيقة أن كل هذا يخالف التاريخ، فجلُّ سلاطين العثمانيين أجادوا اللغة العربية والفارسية واللاتينية، وكانت التركية نفسها تُكتب بأحرف عربية، وغالبية مفرداتها مأخوذة من القاموس العربي المسلم.
كان الهدف من هذه الدعوات جلياً، ألا وهو تفكيك هذه الإمبراطورية، وتحويلها إلى أقطار ودول صغيرة، والسيطرة على أراضيها، بشعارات من مثل: القومية العربية، وتحرير الشعوب، والانتصار للهوية القُطرية، وتعزيز الانتماء لحدودها، وهو ما تحقق في اتفاقية «سايكس بيكو» (1916م)، وتم تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية بين فرنسا وبريطانيا، بتوافق مع روسيا القيصرية وقتئذ، وتواطؤ دولي.
وللأسف، خُدِعت الشعوب العربية بشعارات التحرر، وأن سبب تأخر العالم الإسلامي يعود للدولة العثمانية، وللخلافة تحديداً، والبعض أعلنها صريحة أن السبب هو الإسلام نفسه، وهو ما نادت به النخب العربية العلمانية والمتغربة، ولا تزال ليومنا.
وينهض المسلسل المصري «أرابيسك» (1994م) ليكون خير دليل على حملة التشويه ضد الدولة العثمانية، فقد بثّ مؤلفه أسامة أنور عكاشة -في ثنايا الحوار- آراء ضد الخلافة العثمانية، وتحديداً السلطان سليم الأول، الذي جمع الفنانين والصنّاع المصريين المهرة، وأرسلهم إلى الآستانة، للعمل في بناء عمارتها، وتجاهل المؤلف أنهم عادوا إلى القاهرة ثانية، بعد سنوات عديدة، والشاهد هنا أن المسلسل يروّج إلى أن الدولة العثمانية غيّبت الهوية القُطرية المصرية وسرقت مبدعيها.
«أرابيسك» يروّج إلى أن الدولة العثمانية غيّبت الهوية القُطرية المصرية وسرقت مبدعيها
لورنس العرب
أما السينما العالمية فكانت حاضرة أيضاً في حملة التشويه، ويعد فيلم «لورنس العرب» (1962م) أحد أشهر الأفلام السينمائية التي تناولت الرؤية الغربية لدولة الخلافة العثمانية، وقد اقتبست قصة الفيلم من الكتاب الشهير «أعمدة الحكمة السبعة» لمؤلفه الجاسوس البريطاني توماس إدوارد لورنس.
كان هذا الفيلم نقطة الانطلاق للعالمية للممثلَيْن بيتر أوتول، وعمر الشريف، حيث تناولت أحداثه تفكيك الدولة العثمانية ودور أمير مكة المكرمة في إشعال ما يسمى «الثورة العربية الكبرى»، في يونيو 1916م، بوعود من السياسي البريطاني، المقيم في القاهرة، هنري مكماهون، الذي بعث برسالة تحريضية إلى الشريف الحسين بن عليّ، جاء فيها: «إن جلالة ملك بريطانيا العظمى يرحب باسترداد الخلافة إلى يد عربي صميم من فروع تلك الدوحة النبوية المباركة»، وقد خُدِع الحسين، وصدّق وثار، ثم مات شريداً طريداً!
وكما يقال، فإن الكذب لا أرجل له، وإن طالت مدته، فقد حدث انقلاب فكري في الدراما العربية بشكل عام، فظهرت أعمال عمدت إلى تقديم الرواية الحقيقية لدولة الخلافة، وتفنيد سردية سقوطها المزيفة، ويأتي مسلسل «سقوط الخلافة»، ليكون في باكورة الدراما العربية، التي تناولت بشكل مفصل هذه القضية، وهو من تأليف السيناريست المصري يسري الجندي، وأخرجه الأردني محمد عزيزية، ومن بطولة الفنان السوري عباس النوري، ومعه عدد كبير من الفنانين العرب، وقد جرى تصوير المسلسل في القاهرة وسورية وتركيا، وعُرِض في رمضان عام 2010م.
«سقوط الخلافة» قدَّم رواية حقيقية لدولة الخلافة وفنَّد سردية سقوطها المزيفة
وفي عدد من الأحاديث الصحفية، ذكر المخرج أن هذا المسلسل محاولة للاعتذار عن الزيف التاريخي الذي لحق بصورة السلاطين العثمانيين، وتبيان المؤامرات التي حاكتها القوى الغربية لإسقاطها، وعندما نشاهد أحداث المسلسل، نجد أن بداية التآمر الفعلي كان في عهد السلطان عبدالعزيز الأول (1830 – 1876م)، الذي نجح بشكل كبير في إيقاف التدهور المالي في الدولة، وعزز هيمنتها العسكرية على أقطارها، واسترد هيبتها، فكان أن انقلب عليه الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، ومعه عدد من الشخصيات اليهودية والماسونية، قبل أن ينتقل الحكم إلى ابن أخيه السلطان عبدالحميد الثاني، الذي واجه بقوة مخططات الماسون، وقد تكالب ضده أعضاء «جماعة الاتحاد والترقي»، متضامنين مع «يهود الدونمة».
لقد توافر تمويل سخي لهذا المسلسل؛ مما جعله يخرج في أبهى حلة، على مستوى الملابس والديكورات والتصوير، بجانب السرد الدرامي المفصّل للصراعات في القصور، والمخططات في العواصم الغربية، التي استخدمت اليهود والماسونيين، والنخبة الفكرية المتغربة، وقد تعرّف المشاهد العربي لأول مرة على حقيقة ما جرى، بعيداً عن الروايات التي نشرها القوميون العرب والطورانيون الأتراك، التي تصوّر سقوط الخلافة بأنه إنجاز عظيم، وأن العرب نالوا حريتهم بعدها، وكأن المشكلة فيما أسموه الاحتلال التركي، وليس في الاحتلال الأوروبي.
بل إن مفهوم «الاحتلال التركي» الذي شاع في الدراسات التاريخية العربية ناتج عن مفاهيم القومية العربية، التي امتاحت أفكارها من الفكر القومي الغربي، غير واعين إلى أن رسالة الخلافة العثمانية التي ترددت على ألسنة السلاطين -في هذا المسلسل- تنتصر للإسلام، وللشعوب المسلمة، وتحمي الأقليات غير المسلمة، دون أدنى تمييز على أساس عرقي أو لغوي أو جهوي، وأن الصراع لم يكن مع الدولة العثمانية التي حمت قلب العالم الإسلامي وأهم أقاليمه حتى سقوطها، بل إن فلسطين ضاعت بعدما سقطت الخلافة، وتفككت أرضها إلى دويلات، ولقد نجح هذا المسلسل، وللمرة الأولى في إثارة السؤال عن الدور التاريخي الحيوي الذي قامت به الخلافة العثمانية، وأدركت الأجيال العربية الجديدة الرواية المضادة، لما درسته في المناهج المدرسية.
السلطان عبدالحميد امتلك رؤية إصلاحية نهضوية وصاغ مشروعاً فكرياً جامعاً للأمة
السلطان عبدالحميد
وتعمّقت الحقيقة أكثر مع المسلسل التركي الضخم، وعنوانه «السلطان عبدالحميد»، الذي جاء في 5 أجزاء، خلال الأعوام (2017 – 2021م)، بإجمالي حلقات 157 حلقة، وهو من تأليف عثمان بودور، وأوغور يوزونوك، ومن إخراج سردار أكار، وتمت دبلجته إلى العربية، واصطف الملايين خلف الشاشات في مواسم سنوية متتالية، يرون مظاهر قوة الدولة العثمانية، وفخامة العمارة الإسلامية، وشخصية عبدالحميد، وهو السلطان العثماني الرابع والثلاثون، ويعدّه المؤرخون المسلمون الخليفة رقم (113)، وهو ابن السلطان عبدالمجيد، وُلِدَ في 22 سبتمبر 1842م، وتوفي في 10 فبراير 1918م،
وقد كانت الدولة تمر بأزمات عاصفة ومصاعب مالية جمة، واشتعلت ثورات عاتية في البلقان، من قبل عناصر قومية توثبّت لتحقيق استقلالها، وازدادت سرعة انتشار الأفكار الانفصالية، وأصبح للوطنية معنى قُطري انفصالي، وأخذت فكرتها تنمو وتمتد في الولايات العثمانية.
وشاهدنا كيف امتلك السلطان عبدالحميد رؤية إصلاحية نهضوية شاملة، وصاغ مشروعاً فكرياً جامعاً للأمة، عنوانه «الجامعة الإسلامية»، في مواجهة التغريب الثقافي، ولدحض طروحات القوميات والوطنيات المحلية، وتعزيز فهم الإسلام بوصفه أيديولوجيا ومرجعية إنسانية ودينية وقيمية.
وتركّزُ السردية الدرامية في هذا المسلسل على آخر 13 عاماً من حكم السلطان عبدالحميد، الذي استمر حكمه مدة 33 عاماً، حتى خُلِعَ بانتفاضة في أبريل 1909م، ثم وضع تحت الإقامة الجبرية في قصر «ألاتيني» بمدينة سالونيك مدة 3 أعوام، ونقل لاحقاً إلى قصر «بيلاربي» بإسطنبول في عام 1912م، ثم توفي بعد 6 أعوام في 10 فبراير 1918م، ودُفِن في ضريح جده السلطان محمود الثاني بمنطقة «تشمبرلي طاش» بإسطنبول.
أدرك السلطان عبدالحميد طبيعة المؤامرات ضد الدولة، وكان شاهداً عن كثب لخلع عمه عبدالعزيز عن العرش، ثم سجن أخيه غير الشقيق السلطان مراد الخامس في قصر «تشيراغان»، ومعلوم أن أخاه جاء للحكم نتيجة مؤامرة؛ شاركت فيها أطراف خارجية وداخلية.
الدراما العربية والتركية أعادت تشكيل الوعي المعاصر ليدرك الرواية الصحيحة عن الخلافة
ومن حلقات هذا المسلسل نتلقى معلومات عديدة عن جهود السلطان عبدالحميد عقب توليه السلطة، فأصدر أول دستور عثماني «القانون الأساسي»، في 23 ديسمبر 1876م، ثم عمد إلى النهوض بالزراعة، وتحديث الصناعة، وتنشيط التجارة، وإصلاح القضاء، والاهتمام بالتعليم المدني والعسكري والفني، والسلك الصحي، والمواصلات الحديدية والبحرية والبرقية والبريدية، بجانب الإصلاحات العسكرية عقب التقارب العثماني – الألماني، فاستقدم جنرالات ألمان لتدريب الجيش العثماني، وأرسل بعثات عسكرية، واستقدم أسلحة حديثة.
وكانت عيناه مصوبتينِ نحو أقاليم الدولة المسلمة، بإنشاء قطار الشرق السريع (1888م)، ثم سعى لمد شبكة من الخطوط الحديدية بهدف ربط أجزاء الدولة المترامية والاستفادة منها عسكرياً، حتى إن طول الخطوط الحديدية في عهده بلغ 5883 كيلومتراً، وكان أهم إنجاز له «سكة حديد الحجاز» التي ربطت مدينة دمشق في الشام، مع المدينة المنورة، وأذاع السلطان بياناً لعامة المسلمين، يناشدهم فيه بالتبرع، فشكّلت التبرعات ثلث تكاليف المشروع، الذي تم الانتهاء منه في أغسطس 1908م عندما وصل أول قطار إلى المدينة المنورة.
لقد استطاعت الدراما العربية والتركية أن تعيد تشكيل الوعي العربي والمسلم المعاصر، ليدرك الرواية التاريخية الصحيحة، عن حقيقة الخلافة وما قامت به نحو قضايا الأمة، ولا تزال ذاكرة المشاهدين للدراما تستحضر مقولة السلطان عبدالحميد عن فلسطين، التي رددها أمام الوفد اليهودي، قائلاً: «انصحوا هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، فإني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية، ولقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوماً، فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن.. ولكن التقسيم لن يتم إلا على أجسادنا».