لم يؤدِّ هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على أطراف الدولة الصهيونية قرب غزة، في 7 أكتوبر 2023م، لحالة من الرعب والجنون فقط بينهم، بل دفعهم للتخوف من «طوفان أقصى» ثان قادم في شهر رمضان تُعد له «حماس»، رغم كل الدمار والإبادة التي قاموا بها في غزة!
أما السبب الذي دفعهم لهذا الاعتقاد فهو سعيهم للتضييق على صلاة المسلمين في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، وتواتر التحذيرات من جهات مختلفة أن هذا سيؤدي لصدام آخر بين الفلسطينيين واليهود (طوفان ثانٍ)، ولكن هذه المرة في كل أرض فلسطين التاريخية المحتلة عامي 1948 و1967م.
وزير الحرب «الإسرائيلي» يوآف جالانت كشف، في 27 فبراير الماضي، أنه يُجري تقييماً خاصاً للوضع الأمني على خلفية تقديرات تفيد بأن «حماس» تريد تحويل شهر رمضان المقبل إلى مرحلة ثانية من هجوم «طوفان الأقصى»، وبعد 24 ساعة، أكدت «القناة 12 الإسرائيلية» أن مجلس حرب الاحتلال اضطر لسحب الصلاحيات المتعلقة بالمسجد الأقصى من وزير الأمن اليميني المتطرف إيتمار بن غفير بضغوط من الوزراء بيني جانتس، وجابي أيزنكوت، ويوآف جالانت، خشية تفجيره المنطقة بقرارات عشوائية في رمضان، وإشعال «طوفان» ثانٍ تخطط له «حماس» في كل مدن «إسرائيل» والأرضي المحتلة.
ما قاله وزير الحرب الصهيوني، وما أُعلن عنه بشأن سحب مجلس الحرب صلاحيات منطقة الحرم القدسي من وزير الأمن، يصبان في خانة واحدة هي رعب أجهزة استخبارات الاحتلال التي لا تتوقف عن التحذير منه، وهو «ثورة الأقصى».
ففي مايو 2021م، وخلال العدوان الصهيوني السابق على غزة، حدث ما لم يكن في الحسبان، وتظاهر كل فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948م (الداخل «الإسرائيلي») وعام 1967م (الضفة الغربية والقدس)؛ لنصرة المقاومة في غزة، وكان الوقت شهر رمضان، وتم استفزاز المسلمين قبلها من قطعان المستوطنين المتطرفين والتصادم معهم على أبواب المسجد الأقصى، فاشتعلت حرب فعلية وقتل وتدمير ممتلكات.
هذه الحرب اندلعت بين المسلمين (ومعهم مسيحيو الداخل «الإسرائيلي») واليهود المستوطنين في القدس والضفة وكل المدن العربية المحتلة داخل «إسرائيل»، ووصفتها صحف الاحتلال حينئذ بـ«الحرب الأهلية»، وأخذ قمع وإطفاء هذا الحريق وقتًا.
ما أذهل الصهاينة حينذاك، ولا يزال حتى الآن، كيف بعد كل سنوات الاحتلال هذه والتعايش، كما يزعمون، بين الفلسطينيين العرب واليهود داخل مدن «إسرائيلية»، يقوم الفلسطينيون المسلمون بقتال اليهود؟! حتى إن دعوات طرد أي عربي (مسلم أو مسيحي) من «إسرائيل» تصاعدت، بعدما احترقت منازل وسيارات ومتاجر لليهود والعرب على السواء.
وكان الحديث يدور حول أن «التصعيد في رمضان والأقصى خط أحمر»، وحين خرقه الصهاينة استفزوا المسلمين فنفروا لإنقاذ المسجد الأقصى.
لهذا السبب جاءت تصريحات مجلس الحرب الأخيرة حول رمضان، وشاركت في التحذيرات أمريكا، التي حثت «إسرائيل» على السماح للمصلين من الضفة الغربية المحتلة بالوصول إلى المسجد الأقصى في القدس، خلال رمضان دون استفزاز أو قيود، وذلك بعد أن دعا وزير الأمن بن غفير إلى منع المسلمين كليًا من دخول المسجد في رمضان، ثم أعلن السماح لــ40 أو 50 ألفاً فقط بالصلاة في «الأقصى» بعد تدخل نتنياهو والأجهزة الأمنية، مع أنه يمتلئ بما يقارب ربع مليون مصل أحيانًا في رمضان.
وحين شارك المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر هذه التحذيرات لم يهمه، كعادة أمريكا، حقوق المسلمين في الحرية الدينية، ولكنه ركز على مسألة أن السماح بحرية الصلاة في «الأقصى» في رمضان مهمة بشكل مباشر لأمن «إسرائيل»! وقال: إنه ليس من مصلحة «إسرائيل» الأمنية تأجيج التوترات في الضفة الغربية أو في المنطقة الأوسع، وفق «وكالة الأنباء الفرنسية»، في 28 فبراير الماضي.
معضلة رمضان!
لأن الحرب دائرة في غزة، وهذه المرة ليست مجرد حرب روتينية كسابقتها، ولكنها «حالة حرب» رسمية معلنة من جانب «إسرائيل» منذ هجوم «حماس» عليها بـ«طوفان الأقصى»، كان من الصعب تطبيق نفس قواعد التضييق أو التيسير الصهيونية على المصلين في «الأقصى» في رمضان.
سيطرة الجناح اليميني الديني المتطرف على الائتلاف الحكومي بزعامة نتنياهو، ووجود أسرى للاحتلال في غزة، دفعهم للتشدد في البداية، لحد الحديث بوضوح عن منع الصلاة كلياً، بدعاوى التخوف من مصادمات، مع أن المنع هو الذي سيؤدي لذلك، دفعهم أيضًا للتشدد إصرار «حماس» في مفاوضات تبادل الأسرى على مطالبة الاحتلال بوقف الانتهاكات في الحرم القدسي، ومنع صلاة المستوطنين داخله والعودة لما يسمى «اتفاق الوضع الراهن»، خاصة أن صلاة اليهود ممنوعة بموجب هذا الاتفاق القديم بين موشي ديان وشيوخ «الأقصى» عام 1967م وتنص على أن «يُسمح لليهود بالزيارة لا الصلاة».
شروط «حماس» هذه بشأن «الأقصى» كانت وراء تصريحات وزير الحرب الصهيوني أنه يقيم الوضع الأمني في رمضان وتحذيره من أن «حماس» تريد تحويله إلى مرحلة ثانية من هجوم 7 أكتوبر، وأنه لا ينبغي إتاحة ذلك بكل الوسائل الممكنة، وذلك برغم أن «حماس» سمت هجومها الأخير «طوفان الأقصى»، وقالت بوضوح: إنها قامت به بسبب الانتهاكات الصهيونية التي وصلت لحد إعلان «إسرائيل» تجهيز 5 بقرات حمراء لبدء طقوس بناء الهيكل الثالث المفترض أنهم يريدونه فوق المسجد الأقصى ومكان مسجد قبة الصخرة تقريبًا!
وكانت «القناة 12 العبرية» أكدت، في 16 فبراير الماضي، أن الجيش عثر على وثائق لـ«حماس» في خان يونس تشير إلى أن أحد أسباب عملية «طوفان الأقصى» هو اعتداء سياسيين «إسرائيليين» من ضمنهم بن غفير على الأماكن المقدسة للمسلمين.
وفي السنوات الأخيرة، زار الموقع أعداد قياسية من القوميين المتدينين اليهود المتطرفين وبدأ العديد منهم بالصلاة داخل الحرم القدسي، وتواطأت معهم شرطة الاحتلال، وامتنعت عن اتخاذ إجراءات صارمة ضد هذا الانتهاك الواضح لاتفاق عام 1967م.
ومع أنه ليس معروفًا ما الذي يقصده الوزير «الإسرائيلي» بالمرحلة الثانية من «طوفان الأقصى» في رمضان، فإن المصادر «الإسرائيلية» تقول: إن «حماس» تخطط لاستنفار أوسع في المسجد الأقصى والقدس والضفة حال استمرت حرب غزة أو نفذ الاحتلال سياسة فرض قيود على الصلاة في رمضان، على غرار ما جرى في مايو 2021م وأعقبه شبه حرب أهلية بين المسلمين واليهود في كل أرض فلسطين التاريخية.
وقد أقلقهم، على ما يبدو، قول غازي حمد، عضو المكتب السياسي لحركة «حماس»، عقب انطلاق عملية «طوفان الأقصى»: إن هناك «طوفان الأقصى» ثانية وثالثة ورابعة.
غازي حمد يبشركم.. هناك طوفان أقصى ثاني وثالث ورابع.. ما هو رأي سكان غزة؟ pic.twitter.com/Rnw6rvVDDz
— 🇵🇸 جمال (@Jmal_ps) February 20, 2024
وقد كشفت «القناة 13 الإسرائيلية» أن رئيس الوزراء وافق على مقترح وزير الأمن بن غفير تقييد دخول فلسطينيي الداخل والقدس إلى المسجد الأقصى خلال رمضان، وإرجاء تحديد العدد لما قبل الشهر مباشرة.
لكن مع توالي تقارير أجهزة المخابرات الصهيونية المحذرة من أخطار المنع أو التضييق على الصلاة، وتذكير قادة الاحتلال أن طبيعة الشهر الكريم تُحفز الفلسطينيين المسلمين دينيًا على مقاومة الاحتلال، بدأ بن غفير يجس النبض ويقول: إنه بعد مفاوضات مع نتنياهو تقرر السماح لما بين 40 أو 50 ألفاً فقط بالدخول من كبار السن.
إذاعة الجيش «غالي تساهل» قالت، في 27 فبراير الماضي: إن جهاز «الشاباك» رفع إلى نتنياهو تقريراً أمنياً حول احتمالات كبيرة لحدوث تدهور أمني في الضفة الغربية والقدس حال تقييد الصلاة في «الأقصى»؛ ما يؤثر على أمن الاحتلال، وأعقب هذا مطالبة الجيش وجهاز «الشاباك» من نتنياهو إجراء مداولات جديدة بشأن القيود التي تم تسريبها بفرض دخول 50 ألفاً فقط من المسلمين إلى المسجد الأقصى للصلاة خلال رمضان، ومحاولة تغيير القرار بهذا الخصوص.
ثم كشفت «القناة 12 الإسرائيلية»، مساء الأربعاء 28 فبراير، أن مجلس حرب الاحتلال سحب الصلاحيات التي تخص المسجد الأقصى من وزير الأمن القومي بن غفير، ربما لمنعه من اتخاذ أي قرار مفاجئ يشعل الفتيل الجاهز.
لكن ضباطاً كباراً في الشرطة حذروا من أن فرض بن غفير قيوداً على دخول فلسطينيي 1948م للمسجد الأقصى قد يشعل الأوضاع في القدس والمدن المختلطة (يسكنها يهود وعرب)، كما جرى عام 2021م.
وكتب محللون «إسرائيليون» مثل نداف سرغاي، في صحيفة «يسرائيل هيوم»، في 20 فبراير، يحذرون قائلين: على «إسرائيل» إبقاء المارد الديني في داخل الزجاجة! مطالبين بعدم منع دخول العرب في «إسرائيل»، كما يسمونهم، للصلاة في المسجد الأقصى بشكل كامل، وإلا فعلى الاحتلال أن يخاطر بإطلاق هذا المارد أو الغضب الإسلامي من سجنه، وفق تعبيرهم.
وتفرض الشرطة الصهيونية منذ بداية الحرب على قطاع غزة، قيوداً على دخول المصلين الفلسطينيين من كافة المناطق المحتلة إلى المسجد الأقصى، خاصة أيام الجمعة، واعتقلت 7 آلاف في الضفة الغربية وقتلت قرابة 500 من أهلها لمنعها من التضامن مع غزة، كما اعتقلت ومنعت الفلسطينيين من حملة الجنسية «الإسرائيلية» من التضامن مع غزة واتهمت من يفعل ذلك بـ«الإرهاب»، كي لا يتكرر ما جرى عام 2021م.