ظلت مصر ومن حولها قرابة 20 عامًا تستفتح يومها في الساعة السابعة صباحًا على النداء الندي الرطب الذي يطلقه د. كامل البوهي عبر ميكروفون «إذاعة القرآن الكريم من القاهرة»: «يا أمة القرآن»، ثم يردفه بقوله: «يا خير أمة أخرجت للناس»، ثم يتناول موضوع حلقته، الذي يترسل فيه بصوته العميق الرقيق، وجرسه النافذ المؤثر، ونبراته الأليفة الودود.
وكامل البوهي، يمكننا القول فيه وفي العديد من أبناء جيله: إنه ظاهرة إعلامية متكاملة؛ صوتًا، وعلمًا، وبحثًا، وحرفية، ومهارة.
ولد كامل عبدالمجيد الحفني البوهي بقرية «أشمون جريس» التابعة لمحافظة المنوفية، في 28 ديسمبر 1924م، والتحق بكتَّاب القرية، فحفظ القرآن الكريم، ثم حصل على المراحل الابتدائية والكفاءة والتوجيهية والثانوية، وتخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية، حيث عمل مدرسًا لمدة عام، ثم التحق بـ«الإذاعة المصرية» عام 1954م، وتنقل بين خدماتها الإعلامية المختلفة، إلى أن استقر به المقام مديرًا لـ«إذاعة القرآن الكريم من القاهرة»، وكانت مع بدايات بثها عام 1964م، في قسم يتبع الشؤون الثقافية والدينية بالإذاعة المصرية، حيث كان يشرف على القسم الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل، إلى أن أصبحت «إذاعة القرآن» إدارة مستقلة ضمن الخدمات الإذاعية المختلفة، وأصبح البوهي أول مدير لها عام 1964م، ليبدأ في فتح صندوقه الإذاعي المكتنز؛ لغة، وعلمًا، وثقافة، وتألقًا وجمالاً.
نداؤه اليومي في برنامجه الصباحي «يا أمة القرآن» جمع من حوله الملايين حول الفهم المعاصر للقرآن الكريم
أكمل البوهي دراساته العليا فحصل على الماجستير ثم الدكتوراة ضمن بعثته العلمية لجامعة بلجراد بيوغوسلافيا (قبل تقسيمها) متخصصًا في اللغة «الصربكرواتية» عام 1963م.
قام بالتدريس بكليات الدراسات الإسلامية، واللغة العربية بجامعة الأزهر، كما قام بالتدريس بمعاهد الخدمة الاجتماعية، مدرسًا لمواد اللغة العربية واللغات الشرقية، والفكر الإسلامي، كما قام بتدريس مادة «الصحافة» بقسم الصحافة والإعلام بجامعة الأزهر، وذلك بالتوازي مع عمله الإعلامي المرموق.
أعد وقدم عددًا من أشهر البرامج الإذاعية، مثل: «يا أمة القرآن»، «القاموس الإسلامي»، «رأي الدين»، «في روضة الرسول»، «رب زدني علمًا»، «في نور القرآن».. وغيرها من البرامج التي أعدها وقدمها على امتداد مسيرته الإعلامية الشهيرة الناجحة.
كان البوهي خطيبًا مفوهًا، وشاعرًا ضليعًا، ومحاضرًا فريدًا، تأخذك رشاقة لغته، وجزالة ألفاظه، وطلاوة أدائه، وعمق فكرته، وكان -بصفة شخصية- طوافًا في أرض الله يمكن أن يلقي عدة محاضرات وندوات في اليوم الواحد، وفي أماكن متفرقة من أرجاء مصر.
صاحب أول عمل معجمي «صربوكرواتي» بالاشتراك مع المستشرق العلامة اليوغسلافي حسن قلشي
ومن أشعار د. كامل البوهي التي صارت مثلاً يضربه الخطباء على المنابر قوله:
الركن الثالث منهدمٌ والناس تموت من الفقر
الردة عادت واأسفًا أين الصديق أبو بـكر؟
وهي جزء من قصيدة رائعة يقول فيها:
الركن الثالث منهدم والناس تموت من الفقر
الردة عادت واأسفًا أين الصديق أبو بــكر
فغنىُّ يكنز أموالاً ومتاعًا زاد على الحصر
ميزان العدل تطيح به كفّ للجور المنتصــر
وإذا ما أبصر مسكينًا يرميه بشرر كالقصــر
من للمسكين يؤانسه كي يصبح في عين البصر
وله أشعار متعددة، ومتناثرة، لم يحتفظ بها، إنما كان يلقيها في خطبه ومنتدياته إلقاءً بليغًا مؤثرًا.
منحه الرئيس السادات وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى عام 1980م ثم وضعه في السجن لمعارضته «كامب ديفيد»!
معارضة وتجميد
ظل كذلك إلى أن أثقل في محاضرة له على الكيان الصهيوني، وهاجم اتفاقية «كامب ديفيد» بشدة؛ فأضيء بشأنه المصباح الأحمر، وكان ضمن حوالي 1500 من المعتقلين في سبتمبر 1981م، وظل بالمعتقل لمدة عام، ثم أفرج عنه بعد ذلك، ليتم تجميده وظيفيًا، وإعلاميًا، فعمل بوظيفة هامشية، كمستشار بـ«الإذاعة المصرية» عام 1982م إلى أن لقي ربه في 23 أبريل 1985م.
ترك البوهي تراثًا ضخمًا من الدعوة والفكر الإسلامي، يتمثل في آلاف الخطب والدروس والمحاضرات، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، كما ترك عدة كتب علمية، أهمها:
– نحو إعلام سلامي.
– التربية الإسلامية بين النظرية والتطبيق.
– في نور القرآن الكريم.
– دعوة مع السعادة.
– المسلمون حول العالم.
– القاموس الصربوكرواتي.
ترأس «إذاعة القرآن الكريم» و«اتحاد الجمعيات الخيرية» وأسس جمعية «كل مسلم»
أسس جمعية «كل مسلم» عام 1981م، وترأس اتحاد الجمعيات الخيرية الأهلية بقرار جمهوري، وذلك قبل اعتقاله آخر هذا العام.
كما كان عضوًا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، والمجالس القومية المتخصصة، ومنظمة الإذاعات الإسلامية (التي كان أحد مؤسسيها)، والمجلس الإسلامي الأعلى للمساجد، واتحاد كتَّاب مصر، ولجان اختيار واختبار القرآن الكريم بمصر والعالم الإسلامي.
منحه الرئيس السادات وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى عام 1980م، ونال جائزة الرواد الإذاعيين عام 1982م.
انتقل د. كامل البوهي إلى رحاب ربه في 23 أبريل 1985م.
صفحات مجهولة
لكن الصفحة المطوية من حياة البوهي هي تلك الصفحة العلمية العميقة المتخصصة، صفحة تخصصه في اللغة العربية، وما تفرع عنها من دراسة الآداب، والتخصص في اللغة الصربوكرواتية، وصداقته المطولة المنتجة مع المستشرق اليوغسلافي الكبير العلَّامة حسن قلشي، صديق العرب والعروبة والإسلام، تلك الصداقة العلمية التي كتب عنها كثيرًا الأديب الناقد الكبير د. علي شلش، وتناولها تفصيلاً في عدد من بحوثه ودراساته، خاصة فيما يتعلق بـ«القاموس الصربوكرواتي»، الذي ألفه بالاشتراك مع د. البوهي، وقد استغرق تأليفه وإعداده أكثر من 4 أعوام، ويضم 50 ألف كلمة، وهو المرجع العلمي الوحيد في هذا الباب.
وبعد إنجاز القاموس، قال د. حسن قلشي: لقد استطاع الدارس العالم المصري د. كامل البوهي أن يدرس الأدب اليوغسلافي بجامعة بلجراد، دراسة عميقة وشامله.
وكان موضوع الدكتوراة لكامل البوهي «مؤلفات أدباء اليوغسلاف باللغة العربية»، وهو باب واسع من أبواب الدراسات الاستشراقية، خاصة بعد تأسيس «جمعية المستشرقين اليوغسلاف» التي أسسها د. قلشي، في أكتوبر 1964م.
كان حزمة من المواهب الأصيلة ومثلاً في التفاني والإجادة
وفي هذا الباب كان د. البوهي متماهيًا مع رأي أستاذه د. حسن قلشي في أن الذين يزعمون من المستشرقين أن على العرب اتخاذ الأبجدية اللاتينية السهلة، إذا أرادوا أن يتقدموا بدعوى صعوبة الأبجدية العربية، هؤلاء عليهم أن يبتلعوا هذا الرأي لأنه خطأ جسيم، فالعربية تتلاءم وتتواءم مع طبيعة الأصوات العربية، الناطقة بها والمعبرة عنها.
ومما لا شك فيه أن الأبجدية اليابانية أصعب بكثير من الأبجدية العربية، ومع ذلك لا يوجد في اليابان أُميٌ واحد، ولم تعق صعوبة اللغة اليابانية تقدم اليابان.
فكيف باللغة العربية وأهلها كانوا العالم الأول لألف عام أو يزيد؟
لكن اللغة بِنْتُ الحضارة، والعرب الآن هم الذين يجنون على اللغة العربية وليس العكس.
رحم الله د. البوهي، الذي كان مدرسة في الأداء الإذاعي والوعي الدعوي والبيان العربي الفصيح الصحيح، فترك تراثًا، وربى جيلاً يحمل أبناؤه همّ الإعلام الإسلامي في هذه الأيام الصعبة التي تحياها أمتنا في معركة البقاء.
__________________
1- المختار من الجوهر الأسنى في تراجم علماء وشعراء بوسنة: محمد بن محمد بن صالح بن محمد البوسنوي، المعروف بالخانجي، هدية مجلة الأزهر، القاهرة، بدون تاريخ.
2- سلسلة الحضارة الإسلامية في العالم (في يوغوسلافيا): د. كامل البوهي، مجلة الوعي الإسلامي، الكويت، السنة الثالثة، العدد الثلاثون، غرة جمادى الآخرة سنة 1387هـ/ 5 سبتمبر 1967م.
3- عندما يتحدث الأدباء: د. علي شلش، دار المعارف، القاهرة، 1977م
4- ملف خدمة كامل عبدالمجيد البوهي بالإذاعة المصرية.
5- لقاءات مع د. كامل البوهي وأسرته، خاصة ابنه الزميل أحمد كامل البوهي، المدير العام بإذاعة «صوت العرب».