يمر المسلمون اليوم بحالة من حالات الابتلاء والوهن الشديد ضربت بأطنابها في مختلف الأرجاء، فهم متفرقون لا تكاد تربطهم رابطة أخوة أو حتى طلب مصالح دنيوية كما يفعل الناس، ولكنهم على مستوى الأفراد والجماعات والدول متعادون متدابرون يكيد بعضهم بعضاً، ويوقع بعضهم بعضاً، ويمالئ بعضهم العدو على إخوانهم.
في الوقت نفسه، نرى المدافعين عن الدين القائمين على أمره بصدق في حالة من حالات المحاق والتراجع، فهم إما في السجون أو مشردون في أجواز الأرض أو مستضعفون ينال منهم كل من هب ودب من أعداء هذا الدين، وهم لا يستطيعون أن يردوا الرد الحاسم والمكافئ، وحتى حق الكلام والرد كاد أن يمنع عنهم بأيدي الظالمين المتربصين بهم الدوائر لولا ما وفرته وسائل التواصل الاجتماعي من منابر يتنفس عن طريقها أهل الحق بعض تنفس، ويقاومون جيوش الباطل وأبواقه التي بلغت في بُعدي الزمان والمكان حدًا لم يكن يخطر لأحد على بال، وباتت مقولات الضالين المضلين وهجماتهم لا تتورع عن ضرب معاقل للمسلمين ما ظننا أن يصل الأعداء يومًا إلى ضربها من قريب على ذلك النحو المريب.
لقد ظل المرجفون يحاربون الدين على الصعيد الفكري بمحاولة النيل من أطرافه بالتشكيك في الرموز التاريخية تارة، وبالتشكيك في بعض المعالم والحقائق الإسلامية على استحياء، ولكنك تعجب اليوم أن الضربات باتت توجه بعنف إلى أصولنا اللاحبة وبلا أي حياء ومن قبل أصوات مدجنة مستلبة من حاملي أسماء المسلمين، فالمعركة اليوم تشتعل نيرانها في عقر دارنا، وقد غيب فرسان الميدان تحت الثرى أو خلف قضبان السجون أو في المنافي، ومن ثم صار الوضع كما قال القائل قديماً:
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري!
قد ذهب الصياد فماذا تحذري
أسلحة المواجهة الماضية وكيف نشحذها
السؤال الذي يفرض نفسه إذن: هل إلى خروج من سبيل؟ ما الحل الأمثل، والعمل الأوجب على الدعاة في مثل هذه الظروف القاحلة؟
كيف يمكن الخروج من هذه المرحلة الزلقة الخطرة بأقل الخسائر وبعض الانتصارات في حدود الممكنات؟
لقد قيل الكثير وما زال يقال حول أهمية التخطيط والأخذ بالأسباب المادية للتغلب على هذه المحنة والخروج منها بأقل الخسائر الممكنة في الأرواح والممتلكات، وأهم ممتلكاتنا ليس دورنا ومتاعنا، بل ديننا وعقيدتنا ودعوتنا.
وقيل الكثير كذلك حول أهمية أمور مما لا يمكن إنكاره، ولكنني أعتقد أن أمضى سلاح في أيدي الدعاة في هذه المرحلة هو ما يمكن أن نسميه الأسلحة الإيمانية الماضية، وفي مقدمتها الدعاء الخالص لله عز وجل أن يرفع البلاء، ويثبت الأقدام، والصبر الجميل الذي يتدرع به صاحبه في مواجهة المحن مهما تطامنت، ثم اليقين العميق بنصر الله مهما احلولكت الظلمات وادلهمت الخطوب؛ فبالدعاء والصبر واليقين تنكشف كل غمة، وتزول كل ضائقة.
وعلى الداعية الفطن أن يتخول من الوسائل والأسباب ما يهيئ هذه الأسلحة لأداء دورها وبلوغ أقصى درجات فعاليتها، فيتخير للدعاء أوقاته الفضلى، وأفضلها وقت السحر، فعَنْ أَبِي أُمامةَ رَضِي اللهُ عَنه، قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: «جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ» (سنن الترمذي).
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً، لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللهَ فِيهَا خَيْرًا، إِلَّا آتَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ فِي كُلّ ِلَيْلَةٍ» (صحيح مسلم).
وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟» (صحيح البخاري).
ويكفي هذا الوقت شرفاً أن خصه الله بالذكر فقال تعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ (المزمل: 6).
وعلى الداعية أن يستعين على الصبر بصحبة إخوانه الصالحين أو مطالعة سير السابقين الأولين الذين زكاهم الله بقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِين َصَبَرُوا﴾، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وليستلهم قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ (الكهف).
وليستشعر معية الله له في هذا المقام، وليستشرف آفاقها الفائقة المطاولة عنان السماء من إلهام قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
وعليه أن يعمق يقينه بدعوته، ومؤازرة الله لها، وللقائمين بها، ووعدهم الذي لا يتخلف بنصرها وذلك بمزيد من القراءة والدراسة المركزة المتنوعة، والتفكر والتأمل والذكر.
إنه بفضل الله ثم بحسن استفادته من هذه الأسلحة الإيمانية يستطيع أن يجتاز هذه المرحلة سالماً من الإفراط والتفريط، ليواصل العطاء والبذل في سبيل الله تماماً كما يخرج السيف من كير الحداد ماضيًا مجلوًا أنضر منظرًا، وأرهف حدًا، وأشد فتكًا.
ليست دعوة إلى الركون والسلبية
إن هذه الدعوة أو الخطة التي يشير إليها هذا المقال ليست دعوة إلى السلبية والتراخي، بل هي –فيما أرى- قمة الإيجابية في مثل تلكم الظروف التي أشرنا إليها، ذلك أن ثبات صاحب العقيدة على عقيدته وقت محنته حين تحدق به الخطوب، وتتناوشه سهام الأعداء ورماحهم تريد أن تنتزع منه إيمانه بهذه العقيدة هو أجلى ملامح الانتصار بالنسبة إليه، وفي قصة أصحاب الأخدود، كما رواها لسان الوحي الصادق وكلام النبي الأمين أوضح إشارة لذلك، وإن الدعاء والصبر واليقين هي أهم روافد الثبات ودعائمه الركيزة؛ (قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (يونس: 89).
الثبات منحة من الله تعالى
الثبات منّة من الله سبحانه وتعالى فلا ينال إلا باللجوء إليه، واطّراح النفس بين يديه، وإظهار منتهي الفقر والافتقار لديه، ولهذا المعنى كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» (صحيح الترمذي).
إن التذرع بالوسائل الإيمانية في حياة الدعاة -بل هي في حياة المسلمين جميعًا- ينبغي أن يفوق الاستعانة بالوسائل المادية والركون إليها، وحين تعلو الأصوات من هنا وهناك تُذكّر الدعاة بالأخذ بالوسائل المادية التي لا تنكر أهميتها ينبغي أن تعلو أصوات أخرى على نفس القدر من القوة والوضوح تذكر بالوسائل الإيمانية والأسلحة الربانية التي أثبتت التجربة أنها غالباً ما تضيع أو على الأقل يغفل عنها الناس في زحمة الانفعال والحماس والتخطيط ومواجهة المتغيرات المتلاحقة بالفعل المكافئ.
نعم، بقاؤك على الجادة بلا إفراط ولا تفريط من أهم الانتصارات المأمولة، وهذا وحده ضمان حدوث التوازن والتكامل اللازمين لنمو الشخصية الإسلامية السوية الفاعلة التي تستحق نصر الله وتثبيته ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ (إبراهيم: 27).
إن الفتنة تضغط على أعصاب الناس ضغطًا شديدًا، فمنهم من يحتمل ضغوطها ومنهم من تطحنه الضغوط فيكون للفتنة من الآثار السلبية على النفوس بقدر ما وفق إليه المرء من الأخذ بالأسباب التي تقوي العزيمة وتزيد مناعتها وتصلب صدفتها في مواجهة الفتن وآثارها المدمرة.
لقد رأينا كيف تكون لفتنة السجن آثارها على النفوس، فيخرج البعض صلباً حريصاً على الاستمرار، ما زاده السجن إلا بصيرة ويقيناً في طريقه، ومنهم من يخرج خائفاً يترقب لا يعنيه -بعد- غير نفسه ينجو بها فيبتعد عن كل شيء ويدع الدعوة وكل ما يذكره بها، ومنهم من يتطرف في حجم آثار تلك المحنة عليه فيتحول إما حاملًا لأفكار شديدة التطرف تكفّر المجتمع أو تحمله على حمل السلاح في مواجهة بني قومه تحت ذرائع شتى، وقد يتطرف على جانب آخر فيكون عميلاً من عملاء الظالمين يتكسب بالوشاية بمن كان له معه أخوة على الطريق من قبل.
من هنا، فإن الخروج من المحن بشخصية مستقيمة متوازنة سديدة الرؤى، نقية العقيدة، نظيفة المفاهيم من أن تتلوث بأي من الملوثات والهلوسات التي تتطاير عادة في أجواء الفتن والابتلاءات، وإنني أزعم أن الأسلحة الإيمانية التي أشرت إليها هي من أهم ما يعصم المرء من تلك المنزلقات، ومن ثم كانت هذه المقالة تذكيراً بتلك الأسلحة وتأكيداً عليها لننجو من شرور الفتن وشظاياها المتطايرة هنا وهناك.
لكن عقل الداعية لا يتوقف عن محاولة كسب أرض جديدة، لذلك ينبغي التنبيه إلى أن الدعاة –وهم ينتضون تلك الأسلحة- لا ينبغي أن يتوقفوا عن التنقيب عن ثغرات ينفذون منها إلى مواطن العطب في الحياة والأحياء ليئدوها ويستخلصوا من بين أوضارها المعادن النفسية، وكم في أسوار الباطل من ثغرات، وكم تحت الركام من درر كريمة!
فالداعية الحق إنما يتحرك في ميدان الدعوة بروح المجاهد، ومنطق المعارك، فالمجاهد أبداً لا يلقي السلاح، وإن كثرت بجسمه الجراح، ولكنه يظل يعمل فكره علّه يهتدي إلى فكرة سديدة أو رأي رشيد يقلب موازين المعركة، ويغير وجه التاريخ، وأمامنا في تراثنا المجيد أمثلة فريدة في غزوة «أحد»، و«حنين»، و«مؤتة».. وغيرها، ومنطق المعركة يملي علينا ألا نغفل لحظة عن أسلحتنا أو عدونا أو ثغورنا، فإن لم نكشف ثغرة نحقق من خلالها نصراً أو على الأقل نكسب أرضاً، فلا ينبغي أن نعطي الفرصة لأي هزيمة في جانبنا نتيجة الغفلة عن أي ثغرة فيها.
من أعظم الجهاد سد الثغور
كما ذكرت قبل قليل، لا ينبغي أن نعطي العدو الفرصة بكشف ثغرة في صفوفنا ينفذ منها، وهو ما يبدو أوجب من كشف الثغرات في صفوف العدو، ويبدو لي دوماً أن أخطر الثغرات التي تتهدد وجودنا وحياتنا هي تلك التي أرشدنا النبي الأمين في الحديث المشهور الذي يكاد يكون عنواناً على هذه الفترة من تاريخ المسلمين؛ «يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها».
إنه الوهن حب الدنيا وكراهية الموت، الداء الذي إذا تمشي في أوصال أمة جعلها يباباً وأوردها موارد الذلة، وأهوى بها في قاع الفناء.
إنه الداء الذي يشل إرادة صاحبه ويقعد به معالي الأمور، ويطبعه بطابع الخضوع والاستكانة ويعمى بصيرته فلا يعود يميز بين الحق والباطل، فضلاً عن أن يجعل نفسه في حالة حرب مستمرة لصالح الحق في مواجهة الباطل بكل صوره أينما وجد.
إنه الثغرة التي نفذ منها المغول والصليبيون والشيوعيون واليهود وغيرهم ممن ناصبوا أمتنا العداء على مدار تاريخها الطويل.
ويمكن بمطالعة عابرة –على سبيل المثال- لما كتب ابن كثير في «البداية والنهاية»، وابن الأثير في «الكامل» وصفاً لحال المسلمين في زمن مهاجمة جحافل المغول لدولة الخلافة العباسية أن نقف على هذه الحقيقة بجلاء، وأحسب أنه لن تفوت المطالع أن يسجل بالإعجاب أن هذه الثغرة ما إن سدت بعض سد بتضافر جهود العلماء عز الدين بن عبدالسلام، والأمراء بقيادة سيف الدين قطز حتى تم النصر المؤزر، وانكشف البلاء.
المهمة الأصعب
وأعظم من البحث عن ثغرة في صفوف العدو نخترقها منه أن يوجد من بيننا الشجعان أصحاب العزائم العالية والهمم السامية الذين يصنعون ببسالتهم الثغرات في صفوف العدو، وبمثل هذه المواقف الجسورة الشجاعة تنتزع الانتصارات المجيدة.
ولا يفوتنا أن ننوه هنا بما فعله الأسود العنسي، وابن معد يكرب، في معركة «القادسية» الخالدة، فقد صنعا بأنفسهما الثغرة في صفوف العدو، فكان لمبادرتهم الجسورة الجريئة أثر لا ينكر في حسم نتيجة المعركة للمسلمين.
بقي أن نقول لأولي العزم وأرباب البصائر: إن أعظم من البحث عن ثغرة أن يوجد من بيننا الشجعان أصحاب العزائم العالية والهمم السامية، والنظر البعيد الذين يصنعون بأنفسهم الثغرات في صفوف العدو ليلحقوا به الهزائم المتلاحقة التي تضعف قدرته على المبادرة، وتصيبه بالوهن والاستضعاف لتسلمه في النهاية إلى قدرة المختوم.
فرصة لا غصة
إن نزول البلاء بأي صورة من صوره لفرصة ثمينة لوقفة مع النفس متأنية، وقفة إنابة واستغفار، وتفكر واعتبار، نراجع المواقف، وتعالج الأخطاء، ونسد الثغرات، ونشحذ العزائم، ونجدد الإيمان ونتزود باليقين لنبدأ الانطلاق إلى نصر جديد.