ليس أقل من أن تصاب بالفزع عندما تطلع على الأرقام الخاصة بمعدلات القراءة وانعكاس ذلك على تأليف الكتب وعدد النسخ المطبوعة منها في عالمنا العربي، إذ تكتشف سريعاً أننا نحتل مرتبة متأخرة للغاية بهذا الشأن في مقابل معدلات مرتفعة للعديد من المجتمعات الغربية وحتى غير الغربية، فهي لا تبلغ لدينا في أفضل حالاتها 2.5%؛ الأمر الذي يعكس مدى عمق وحجم الأزمة التي يعيشها عالمنا العربي فيما يتعلق بالقراءة وتأليف الكتب.
كما أنه ليس صعباً إدراك العلاقة بين معدلات القراءة وحجم ما ننتجه في عالمنا العربي من الكتب والعناوين، فكلما زادت معدلات القراءة زاد معدل الإنتاج، والعكس بالعكس، وهو ما يطرح تساؤلاً مفاده: هل الأزمة أزمة قراءة أم أزمة إنتاج؟
والحقيقة أننا للإجابة عن هذا التساؤل لسنا مضطرين للاختيار بين الأزمتين، فالواقع يشي بأن الأزمتين معاً تسببتا في إفراز العديد من التحديات التي أوصلتنا في نهاية الأمر إلى ما نحن عليه.
القارئ والقراءة
ربما تكون هناك دراسة صادرة قبل سنوات لاتحاد الناشرين العرب أشارت إلى أن «العرب يقرؤون عكس ما هو شائع»، وهي النتيجة التي يرى الكثير من الفاعلين الثقافيين أنها تتناقض مع الواقع، كما تتناقض مع تقارير وإحصاءات أخرى صدرت عن صحف ومراكز ومؤسسات ثقافية دولية وعربية أثبتت خلاف ذلك يبرز من نتائجها تلك التي نوهت إلى أن الفرد العربي يقرأ بمعدل ربع صفحة كتاب فقط في العام، مقابل 11 كتاباً يقرؤها الأمريكي، و7 كتب هي حصة البريطاني سنوياً، هذا بالإضافة إلى التراجع الملحوظ في معدلات إنتاج الكتب ذاته.
وعليه، فإنه يمكننا في هذا الصدد الإشارة إلى بعض من الأسباب التي أسفرت عن هذا التحدي:
– الأمية؛ فما زالت معدلات الأمية مرتفعة في عالمنا العربي، فبحسب ما أعلنته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، فإن معدل الأمية في الدول العربية بلغ 27.1% مقارنة بـ16% على مستوى العالم؛ بما يعني أن الأميين في عالمنا العربي يقارب 54 مليون شخص، وهو عدد مرشح للارتفاع في ظل الأوضاع التعليمية المتردية والأزمات التي تمر بها المنطقة.
– ارتفاع أسعار الكتاب؛ وهو ما انعكس سلباً على معدلات البيع والشراء، ويعود في بعضه إلى اعتبار الكتاب لدى عدد من دور النشر كسلعة للتربح والمبالغة في ذلك، وفي بعضه الآخر كنتيجة لارتفاع تكلفة الطباعة والشحن وتغير قيمة العملة.
– تركز الإنتاج وتكثيفه في فروع محددة وتراجعه في علوم معرفية أخرى؛ إذ شهدت السنوات الأخيرة مثلاً طوفاناً من إنتاج الروايات الأدبية على حساب الكتب السياسية والفكرية والعلمية وغيرها.
– اكتفاء قطاعات كبيرة من القرّاء خاصة الشباب بما يتحصلون عليه معرفياً من مواقع التواصل الاجتماعي التي أضحت مصدراً معرفياً لهم.
الكتابة والإنتاج
مثَّل التراجع في تأليف وإنتاج الكتب في العالم العربي هاجساً كبيراً لدى المعنيين بالعمل الثقافي منذ عقود؛ وهو ما دفع بعضهم إلى دق ناقوس الخطر مراراً، من خلال نشر ما توصلت إليه دراساتهم وأبحاثهم حول هذه الإشكالية، ومنها ما أصدره الباحث التونسي الحبيب الإمام منذ نحو 20 عاماً في كتابه «الاقتصاد الثقافي» الصادر في عام 2005م الذي أكد خلاله أن معدل نشر الكتاب في العالم العربي لم يتجاوز نسبة 0.7%، وأن نصيب كل مليون عربي من الكتب المنشورة في العالم لا يتجاوز 30 كتاباً مقارنة مع 584 في أوروبا، و212 كتاباً في أمريكا، وهو الأمر الذي لم يختلف كثيراً بعد 10 سنوات، إذ قال رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب في عام 2014م: «الوطن العربي ينتج 1.1 فقط من الإنتاج العالمي».
مضيفا أن متوسط طباعة دار النشر في العالم العربي أي كتاب يقدر بحوالي 1000 نسخة، بينما المتوسط في بريطانيا هو 85 ألف نسخة للكتاب الواحد، فيما يبلغ حجم إجمالي صناعة النشر العربي 4 مليارات دولار، مقابل 28 مليار دولار لحجم صناعة النشر الأمريكي فقط.
هذه الأرقام أكدتها منظمة «يونسكو» في تقرير لها صدر قبل عام واحد؛ إذ أكد التقرير أن الطفل العربي يقرأ 7 دقائق سنويًا، بينما الطفل الأمريكي يقرأ 6 دقائق يوميًا، وأن لكل كتابين يصدران في العالم العربي يصدر 100 كتاب في أوروبا.
وإجمالاً يمكننا أن نفسر هذا التراجع في الإنتاج إلى الأسباب التالية:
– عجز الكثير من الكتَّاب والمؤلفين عن الجمع بين التفرغ للتأليف والقيام بأعباء الحياة وتكاليف المعيشة، خاصة أن الكتاب لم يعد يدر دخلاً على المؤلف.
– الاستغلال الذي تمارسه العديد من دور النشر التي تحرم الكتَّاب والمؤلفين من مكافأة التأليف، وتتعاقد معه على نسبة في المبيعات دون إطلاعه بشكل دقيق على حركتها، وهو ما يجعله يتحصل في نهاية الأمر على فتات لا يليق بالكاتب؛ ما تسبب في إفقاد الكثير منهم تنفيذ مشاريعهم الثقافية والفكرية.
– إحجام قطاع عريض من الكتَّاب والمؤلفين عن الانسياق خلف ما تفرضه سوق الكتاب التي أصبحت لها متطلبات خاصة من حيث طبيعة الموضوعات التي يتم تناولها وطريقة التناول التي أبعد ما تكون عن العلم والمعرفة وأقرب ما تكون للإثارة والتسلية.
– اكتفاء عدد من دور النشر على إعادة طبع الكتب الدينية القديمة أو الإنتاج السابق لكبار الكتّاب والأدباء دون النظر إلى المؤلفات الجديدة.
الأجواء والظرف السياسي
لا شك أن للظرف السياسي أثره في الحياة الثقافية، فكلما علا سقف الحرية ازدهرت الحياة الثقافية، ومن ثم فقد كان للواقع السياسي العربي المتردي خاصة في السنوات الأخيرة أثره السلبي على إنتاج الكتاب بعد أن أحجم الكثير من الكتَّاب عن التعبير عن أفكارهم خشية التعرض للمحاسبة، الأمر الذي يفسر لدى الكثيرين ازدهار الأعمال الأدبية في مقابل غيرها كونها لا تكون في أغلبها تعبيراً مباشراً عن الرؤى والأفكار.
كما تأتي القوانين المكبلة لحركة النشر والإجراءات المعقدة في بعض الدول فيما يخص عملية التسجيل ورقم الإيداع ومطالعة محتوى المؤلفات كواحدة من الأوضاع الضاغطة على المؤلفين ودور النشر.
ولا يغيب عنا كذلك أن الكتاب في واقعنا العربي لا يجد لنفسه مكاناً حقيقياً في الأسواق؛ ما يجعله غائباً بشكل دائم عن الأبصار، إذ رغم كثرة عدد المكتبات في المدن والقرى العربية، فإنها مكتبات اقتصرت مبيعاتها على الأدوات المكتبية والكتب المدرسية، فيما يندر أن تجد مكتبة تبيع الكتب الأخرى ما يمكن أن يشجع على القراءة ومن ثم زيادة الإنتاج.