بعد أن فقدت الأمة الإسلامية ريادتها، ودخلت التيه وأوغلت، وتداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، برزت مشاريع نهضوية لإنقاذ الأمة، تتدافع المناهج والسبل، يحتل عنصر الدين فيها محور الاختلاف، ما بين موجب لوجود أساس الدين في عملية النهضة، ونابذ لهذه الفكرة.
مقومات النهضة
وفقاً لقوانين علم الاجتماع، هناك مقومات لأي مشروع نهضوي يتوقف نجاحه على استكمالها، ونلخص هذه المقومات فيما يلي:
أولاً: الفكرة المركزية:
يعرفها د. جاسم سلطان بأنها «هي في جوهرها مجموعة من المسلمات والعقائد التي يُبنى عليها نظام القيم ويصطبغ بها نظام المجتمع»(1)، فهي الأيديولوجيا التي تصبغ المجتمع، والأساس الذي يعتنقه فيصيغ كل مظاهر الحياة فيه، وينظم شؤونه تبعاً لقواعده وتعاليمه، ومثالها: الحضارة العربية التي ارتكزت على الإسلام، والاتحاد السوفييتي الذي نشأ على فكرة الشيوعية، والولايات المتحدة التي ارتكزت على فكرة الليبرالية.
القيم التي تنبثق من ثقافة المجتمع تضبط سلوكيات الفرد حتى في غياب الرادع القانوني
ثانياً: الفكرة المحفزة:
وهي الفكرة التي تخاطب الدوافع النفسية والفطرة الإنسانية وتمس حياة الناس، وتنطلق في الوقت ذاته من الفكرة المركزية وتتصل بها، وهي التي أسماها المفكر الجزائري مالك بن نبي بالفكرة الدافعة: «المعجزات الكبرى في التاريخ مرتبطة دائماً بالأفكار الدافعة»(2).
الشيوعية مثلاً قد اتخذت فكرة محفزة عبرت عنها بشعارات «نريد خبزاً»، وكان للمشروع الصهيوني فكرة دافعة لجمع اليهود في فلسطين وهي مصطلح «أرض العسل واللبن»، إشارة إلى خيرات فلسطين، ليضاف إلى فكرة «أرض الميعاد».
ثالثاً: الثقافة:
يقول مالك بن نبي: «الثقافة تعرف بصورة علمية على أنها مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته، كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته»(3).
وتكمن أهمية القيم التي تنبثق من ثقافة المجتمع، في أنها تضبط سلوكيات الفرد حتى في ظل غياب الرادع القانوني، الذي لن يستطيع بأي حال من الأحوال أن يغطي كل المساحات في حياة الأفراد، حيث إن هذه القيم الثقافية مستمدة بالأساس من الفكرة المركزية التي أشرنا إليها وقلنا: إنها تمثل الإطار الأيديولوجي.
علماء الاجتماع يؤكدون أنه لا يصلح في مشاريع النهضة سوى الدين كفكرة مركزية
رابعاً: الإنتاجية:
تعد الناتج الطبيعي لالتزام المقومات الثلاثة المذكورة؛ الفكرة المركزية، والفكرة المحفزة، والثقافة، إذ بعدها تتجه جهود أفراد المجتمع على اختلاف تخصصاتهم وإمكاناتهم إلى السير في اتجاه واحد ليضع كل منهم لبنة في هذا البناء.
الدين كفكرة مركزية
نكثف الحديث في هذا المقام على الفكرة المركزية، التي تعتبر الأساس للمقومات الأخرى، والخلاف بين مشاريع النهضة في أمتنا يدور حول هذا الأساس، فيم تتمثل الفكرة المركزية؟ أهي الدين أم أساس آخر؟
– من منظور شرعي:
لا قوام لهذه الأمة ولا نهضة لها إلا بما صلح به الأولون وسادوا، فهو مصدر عزتها ورفعتها كما قال الفاروق عمر رضي الله عنه: «كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله»(4).
والمتتبع لفترات القوة والضعف التي مرت بها الأمة، يرى بوضوح تقدمها ونهضتها وسؤددها الحضاري في الفترات التي تمسكت فيها بدينها، بينما لم يصبها الضعف والهوان والتخلف والفقر والجهل إلا في الفترات التي نأت فيها عن التمسك بتعاليم الإسلام.
وفق علم الاجتماع فالأمة لا نهضة لها إلا بفكرة مركزية يمثلها الإسلام عقيدة وشريعة
ذلك لأن الإسلام دين عمل وإعمار وأخذ بأسباب القوة والحضارة، يصلح الدنيا كما يصلح الآخرة، ويحفز ويشجع على العلم والتقدم والازدهار، بل يجعل التخصصات المطلوبة في الأمة فروضاً كفائية يأثم الجميع إن لم يكن لها من يقوم بها.
– من منظور علم الاجتماع:
لكننا هنا بصدد الحديث عن الدين كفكرة مركزية من منظور علم الاجتماع، فقد ذهب علماء الاجتماع إلى أنه لا يصلح في مشاريع النهضة سوى الدين كفكرة مركزية، فممن ذهب إلى هذا أرنولد توينبي، الذي قال: «أميل إلى مناصرة فكرة دور العقائد الدينية في مجريات التاريخ، فإذا ما ألقينا ببصرنا على الحضارات التي ما برحت قائمة حتى يومنا الحاضر، نجد أنه يكمن وراء كل منها نوع من العقيدة الدينية»(5).
ويؤكد هذه الحقيقة مالك بن نبي بقوله: «الحضارة لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية»(6).
وهذا حق لا لبس فيه، فمن يفتش في بذور الحضارات التي قامت في الشرق والغرب، سوف يتبين له أن بذورها كانت الفكرة الدينية.
ولابد للفكرة المركزية أن تعبر عن الهوية الثقافية للمجتمع التي ترسخت عبر تاريخ طويل، بحيث تعبر عن صبغته النهائية، لا أن تكون فكرة دخيلة مستوردة قامت في مجتمع آخر، على أن تكون هذه الفكرة متضمنة لمكون صلب ثابت لا يتغير وهو عقيدة واضحة قادرة على تفسير وتنظيم علاقة الإنسان بالكون، وتجيب بوضوح عن تساؤلاته حول خالقه وموقع الإنسان بين الخلائق ورسالته التي خلق من أجلها، كما ينبغي أن تكون متضمنة لمكون مرن يتمثل في القدرة على التعامل مع مستجدات العصر ومواكبة المتغيرات، وهو ما تمثله منظومة تعاليم الشريعة.
ومن هنا ندرك أنه وفقاً لمنظور علم الاجتماع، فإن هذه الأمة التي جاء الإسلام ليصبح صبغتها النهائية، ومرجعيتها الأخيرة، لا نهضة لها إلا بفكرة مركزية يمثلها الإسلام عقيدة وشريعة، وأما المناهج المستوردة وعلى رأسها العلمانية، فإنها فكرة نشأت في مناخ آخر في ظل فراغ المجتمعات الغربية من فكرة دينية تتحقق فيها تلك المواصفات السالفة التي تجعلها صالحة لأن تكون فكرة مركزية.
________________________
(1) قوانين النهضة، جاسم سلطان، ص14.
(2) مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ص42.
(3) شروط النهضة، مالك بن نبي، ص83.
(4) رواه الحاكم في المستدرك، وقال الذهبي في التلخيص: صحيح على شرط البخاري ومسلم.
(5) مختصر دراسة التاريخ، أرنولد توينبي (3/ 152).
(6) شروط النهضة، مالك بن نبي، ص56.