العدل قيمة إسلامية عليا ومقصد من مقاصد الشريعة، وهو اسم لله تعالى، ومدار الكون على العدل، فما خلقت السماوات والأرض، ولا أنزلت الكتب ولا أرسل الرسل إلا لإقامة العدل؛ (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25).
للعدل معانٍ عدة، فهو ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو الحكم بالحق من غير ميل أو غرض، وهو الإنصاف، والاستقامة، وتقويم الشيء إذا مال أدنى ميل، والتوسط بين الإفراط والتفريط، وعلى هذه المعاني المتقاربة يدور استعمال كلمة العدل في لغة العرب، ونقيضه الظلم؛ وهو إما وضع الشيء في غير موضعه، أو إيقاع ضرر غير مستحق، وفي الحالتين هو لا يجوز في حق الله تعالى؛ لأن الله لا يضع الأشياء إلا في مواضعها، كما أنه لا يعاقب أحداً بغير حق.
والعدل شامل لجميع النواحي المادية والمعنوية؛ إذ يتضمن المعاملات بين البشر، كما يتضمن القيم والفضائل المعنوية، وحول هذا المعنى الأخير يقول ابن تيمية: «كل خير فهو داخل في القسط والعدل، وكل شر فهو داخل في الظلم، ولهذا كان العدل أمراً واجباً في كل شيء وعلى كل أحد، والظلم محرماً في كل شيء ولكل أحد، فلا يحل ظلم أحد أصلاً سواء كان مسلماً أو كافراً أو كان ظالماً»، ويفهم من هذا أن العدل قيمة مهيمنة وحاكمة على القيم الأخرى لاشتماله أمر الدين كله أوامره ونواهيه؛ فما نهى الله عنه راجع إلى الظلم وكل ما أمر به راجع إلى العدل.
العدل شامل لجميع النواحي المادية والمعنوية فيتضمن المعاملات بين البشر والقيم والفضائل
ولا يستقيم أمر العالم في نظر الشريعة إلا بالعدل؛ العدل في الدماء والأموال والأنساب والأبضاع والأعراض، ولهذا شرع القصاص ومعاقبة المعتدي بمثل فعله عبر القضاء النزيه، «وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، وتأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة، ويؤدى حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقيم الدين، ويجري السنن والشرائع في مجاريها»، كما يقول ابن خلدون.
وإذا كان العدل لا يتحقق إلا من خلال القضاء، لذلك بذل علماء الإسلام جهداً كبيراً في محاولة تحويل مفهوم العدل القرآني إلى جملة من الإجراءات الواقعية الملموسة من خلال المؤسسة القضائية التي تفصل في النزاعات بين المتخاصمين، التي أحيطت بسياج من الضمانات لضمان تطبيق العدل، وهو ما جعل منها مؤسسة فريدة لا تشبه أي مؤسسة قضائية في الأمم والحضارات الأخرى.
ضمانات العدالة
وأول ضمانة من ضمانات العدالة هي التنوع الواسع في العقوبات الإسلامية، بحيث تتناسب مع طبيعة الجرم بلا زيادة أو نقصان، وهو تنوع لا نجد له نظيراً في الأنظمة القضائية حتى يومنا هذا، إذ يحصي رودولف بيترز، في كتابه «الجريمة والعقاب في الشريعة»، 13 عقوبة إسلامية يرتبها من الأدنى إلى الأعلى: التوبيخ، الزجر، التشهير، النفي أو التغريب، الحبس، الجلد، قطع اليد اليمنى، القطع من خلاف، قصاص ما دون النفس (قطع بعض أعضاء الجاني أو جرحه أو فقء عينه إذا تعمد إيذاء شخص بمثلها)، القتل وهو على 3 أصناف (القتل قصاصاً، القتل رجماً، القتل صلباً).
علماء الإسلام حوَّلوا مفهوم العدل القرآني إلى جملة من الإجراءات الواقعية الملموسة
وعلاوة على تلك العقوبات المحددة المنصوص عليها، هناك عقوبات تكميلية أخرى في الشريعة وعددها يسير؛ كعقوبة القاذف الذي لا تقبل شهادته، وهناك أيضاً ما يسمى «التعزير»؛ وهي عقوبة مخولة للقاضي في حال تعذر إثبات التهمة بوسائل الثبوت الشرعي المعتادة، أو في حال ارتكاب جرم لا تنطبق عليه تعريفات الجريمة الشرعية، وعندئذ يحق للقاضي اختيار عقوبة من العقوبات السالفة وتوقيعها على المذنب.
ومن ضمانات العدالة القواعد الفقهية، ومنها قاعدة «الحق لا يسقط بتقادم الزمان»؛ وبمقتضاها يحق لأرباب الحق المطالبة قضائياً باسترداد حقهم مهما تطاول الزمان متى أمكنهم ذلك وإن انقضت المدة الزمنية المخصصة لإقامة الدعوى، ومنها إجازة فسخ عقود المكره من بيع وشراء وهبة وغيره بعد زوال الإكراه الشرعي، فإن مات المكره انتقل حق الفسخ إلى ورثته، ومنها عدم قبول شهادة المستخدمين لصالح مخدوميهم في الدعاوى، وما إلى ذلك من قواعد ضبطت الممارسة القضائية وكفلت العدالة بها.
غير أن هذه القواعد وحدها ما كانت لتكفل العدالة لولا مبدأ استقلال القضاء عن باقي السلطات في الدولة، وهذا الاستقلال على شاكلتين:
1- استقلال ذاتي داخلي؛ يراد به فصل القضاء عن نوازع القاضي الذاتية التي قد يختل بها مقصد العدل، ويشمل سلامة القاضي في صفاته؛ الذاتية والخلقية والدينية، وتحرره من الخوف والحاجة، ومن هذا الاستقلال الذاتي للقاضي غير المنصوص عليه في القوانين ينبع استقلال النظام القضائي بأسره؛ لأنه نابع من ضمير القاضي ومراعاته لأحكام الشريعة ومبادئها.
أول ضمانة للعدالة التنوع الواسع في العقوبات الإسلامية بحيث تتناسب مع طبيعة الجرم
2- استقلال خارجي؛ يتعلق بمنع تدخل غير القاضي وتأثيره على القاضي، وهو يتضمن الاستقلال الوظيفي؛ ويعني قيام القاضي بواجبه القضائي دون تدخل من أي جهة أو تأثير، والاستقلال العضوي؛ ويعني إفراد القضاء بسلطة منفصلة عن باقي السلطات.
وثمة ضمانات وضعها العلماء تكفل استقلال القضاء، من قبيل وضع شروط ذاتية وخلقية فيمن يتولى القضاء، وحصر تولية القاضي في الإمام أو من ينوب عنه، وعدم نقل قضية دخلت في ولايته بلا سبب مشروع، وعدم جواز عزله إلا بطلب منه أو بمقتضى مصلحة شرعية، وعدم نقض حكم القاضي من أي جهة حتى وإن كان السلطان ذاته، إذ الأصل صحة الحكم القضائي ولا يبطل منه إلا ما خالف نصاً شرعياً أو خالف إجماعاً قطعياً أو ظنياً أو خالف القواعد العامة، وعدم جواز نظر القاضي دعوى يمثل هو أو أحد أقاربه طرفاً فيها، وحظر منح الهبات والهدايا للقضاة، وهي ضمانات تكفل في مجموعها تحقق الاستقلال بنوعيه.
وقد ناقش الفقهاء مسألة تدخل ولي الأمر في عمل القاضي واعتبروه معصية، واستدلوا على ذلك بالقاعدة الشرعية «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، وأن السمع والطاعة لولي الأمر يكون في غير معصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، وذهبوا إلى أنه إذا أصر ولي الأمر على التدخل رغم ممانعة القاضي وجب عليه الاستقالة حفاظاً على استقلاليته؛ لأنه ليس بإمكانه التنازل عنها لأنها ليست حقاً شخصياً له، وإنما هي من حقوق الله تعالى التي لا يجوز التنازل عنها.
القواعد وحدها ما كانت لتكفل العدالة لولا استقلال القضاء عن باقي السلطات بالدولة
واستقلال القاضي لا يمنع من مراقبة أعماله وتفقد أحواله، ولولي الأمر أن يطالبه بعدم تأخير الدعاوى بغير مبرر، وأن ينظر في أقضيته وأحكامه التي يصدرها، فإذا تبين أنه أخطأ في بعضها جاز عزله عند بعض الفقهاء، وإذا قصرت الرقابة عن الوصول لهدفها من مراقبة القضاة وتقويمهم ووقع من بعضهم الخطأ أقرت الشريعة التشكي فيجوز لأحد المتداعين في الدعاوى أن يتشكى من انحياز قاضيه إلى خصمه أو بوجود عداوة سابقة معه أو غير ذلك من الأمور، ويجب عليه أن يرفع شكواه لولي الأمر الذي ينظر فيها، وأن يعاقب القاضي أو يعزله إن ثبت جوره وظلمه.
خلاصة ما سبق؛ أن العدل مقصد من مقاصد الشريعة، وأن مؤسسة القضاء استطاعت تجسيده إجرائياً من خلال تكريسها مبدأ الاستقلال عن السلطة التنفيذية وتطبيقها ضمانات تكفل تطبيق المساواة والعدالة بين المتنازعين.