يؤسفني أن أقول: إن بعض المسلمين قد استخزوا أمام الزحف الفكري الذي تنشره الصهيونية والصليبية الإلحادية فلم يستجيبوا لهذا الزحف بغير اليأس والانتفاضات الهستيرية، ولو بذلوا بعض الجهد في التنقيب عن تراث فكرهم الأصيل لاستطاعوا أن يحيلوا هذه التخبطات إلى حركة إيجابية تقف سدًا منيعًا في وجه ذلك الحقد التاريخي والفكر المنحرف، ولاستعصى على أي دخيل أن يدمر کیاننا، ويمزق «الوجدان» الإسلامي الذي وقف صامدًا نظيفًا.
مقدمة
في الفكر الإسلامي بديهيات لا تحتاج لمناقشة أو استدلال، غير أن هذه البديهيات قد تعرضت في عصرنا لمحاولات متصلة هادفة إلى تشويه هذه البديهيات وطمس معالمها، لقد أدركت الصليبية والصهيونية والإلحادية أن عظمة الفكر الإسلامي وتراثه الحضاري يشكلان عقبة في سبيل تحقيق أهدافها المشتركة ومن ثم انقضت بكل ثقلها عليهما، متخذة أبشع الوسائل وأخبثها لتوهين عرى الصمود الإسلامي، وزعزعة الثقة به.
والمفكر المسلم لا يصح أن يقف مكتوف الأيدي أمام هذا التآمر التاريخي الطويل، بل عليه من آن لآخر أن يعرض في إيجاز وتركيز، وبطريقة علمية واضحة أسس الفكر الإسلامي، ولبناته حتى ولو كانت من البديهيات التي سَلَّم بها الأولون، والتي يُسلم بها اليوم العاملون في حقل الدعوة الإسلامية…
ومكان الفكر الإسلامي في أجهزة الإعلام مكان ضيق أو محدود، بل ومعدوم في بعض الأحيان، وإزاء هذا التحدي والتعصب لا بد للفكر الإسلامي من اختراق الزحام، ومجابهة التحدي، والوصول إلى أجيالنا الحائرة، وهو واجب يفرضه الدين على كل حامل للقلم، وكل مالك لزمام الكلمة المطبوعة والمذاعة.
وأجيالنا تخوض معمعة مصيرية، وهي في أمس الحاجة للوقوف إلى جوارها، وتزويدها بالكلمة الأصيلة، ومعاونتها في الخلاص من إغراءات الزيف والانحراف المتسترة وراء شعارات التقدم والعدل الاجتماعي.
ويؤسفني أن أقول إن بعض المسلمين -أو كثرة غالبة منهم- قد استخزوا أمام الزحف الفكري الذي تنشره الصهيونية والصليبية والإلحادية، فلم يستجيبوا لهذا الزحف بغير اليأس والانتفاضات الهستيرية، ولو بذلوا بعض الجهد في التنقيب عن تراث فكرهم الأصيل لاستطاعوا أن يُحيلوا هذه التخبطات إلى حركة إيجابية تقف سدا منيعا في وجه ذلك الحقد التاريخي، والفكر المنحرف، ولاستعصى على أي دخيل أن يدمر كياننا، ويمزق «الوجدان» الإسلامي الذي وقف صامدًا نظيفًا قادرًا على مختلف الحق والأزمان.
وفي كلمات قصار سوف نتحدث عن إحدى المشاكل الغريبة، وهي مشكلة الدين والدولة، إن صح أن تسمى مشكلة وعشمي أن يسارع حملة الأقلام المسلمة، في معالجة ما يجب عرضه من قضايا اجتماعية، أو أخلاقية، أو اقتصادية، أو فنية، أو سياسية في إطار العقيدة الإسلامية السمحاء دون تردد أو وجل.
الدين والدولة.. الدين والحكم.. الدين والسياسة
الدين والدولة، الدين والحكم، الدين والسياسة، إن مثل هذه المصطلحات لم يكن لها وجود على الإطلاق في عصور الإسلام الأولى، أعني لم يكن هناك ما يسمى بفصل الدين عن الدولة، وأحسب لو أن مسلمًا أو غير مسلم قد فكر في إثارة هذه القضية أيام الرسول صلى الله عليه وسلم أو في عصر الخلفاء والتابعين، لكان مناطًا للسخرية والاستغراب، ولانصرف الناس عنه، ورموه بالجنون والخرق.
كان الأوائل يفهمون الدين فهمًا شاملًا متكاملًا، يرونه أصولًا وأحكامًا موحاة إلى رسول الله، ویرونه نسيجًا واحدًا يضم الأخلاق الخاصة والعامة، يتناول حياة الفرد وحياة الأمة، وينسق العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويرسي أسس السلوك الفردي والجماعي إبان الحرب والسلم، ويدير شؤون الزواج والطلاق، والجريمة والعقاب، وحتى آداب السلوك الإنساني فيما يتعلق بالطعام والشراب، والنوم واليقظة، والصدق والكذب، وله نظريته الخاصة في المال العام وميزانية الدولة، والمال الخاص المملوك للأفراد، ومعاملة الزوجة والأبناء والخدم، وعلاقات الدولة الإسلامية بجيرانها من الدول على مختلف نظامهم وأزيائهم ولغاتهم وأجناسهم، وكان لاختيار الحاكم طرائق عدة، تجتمع كلها على أساس واحد من الشورى والعدل والكفاءة، والاختيار الحر المباشر على صورة من الصور، وكان الحاكم ملزمًا بسياسة معينة تحددها مبادئ الإسلام، وتغذيها شريعته، ومن انحرف عن هذه السياسة كان جديرًا بالعقاب، ونزع الثقة عنه، وتقويمه حتى بالسيوف، وكانت الرعية في ظل القيم الإسلامية، قادرة -أو لها الحق- في إعادة الحاكم إلى الصواب إذا ما أخطأ، وهو بشر يخطئ ويصيب، وليس له قداسة أو مسحة الهيئة، تحميه من حساب العامة له، ورده إلى الجادة إذا ما انحرف والذين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة، إنما يقولون:
«الدين علاقة بين الفرد وربه»، وهي كلمة حق أريد بها باطل فهم يقصدون منها حصر الدين في مجموعة من الشعائر كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها، وهذا التحديد أو التضييق إنما هو فرية لم يؤيدها واقع الدين وتجربته الرائدة في العصور الأولى، ولم يدعمها نص قرآني، أو دليل من السنة، أو رأي من آراء الفقهاء قديمًا أو حديثًا، ومن ينكر أن عدل الحاكم، وتعففه عن الدنايا والظلم والانحراف، إنما هو خلق ديني أصيل، بل وانعكاس طيب، أو ترجمة عملية، لشعائر الله وفرائضه من صوم وصلاة وغيرهما، والعلاقة بين الفرد وربه، إنما هي علاقة مؤداها خلق الوازع الديني، والضمير الحي، والرقابة الذاتية، وبدون هذه الأشياء، لا يستقيم خلق، ولا تترعرع قيم، ولا يسود عدل، ولا تنتشر فضيلة.
والآن، لنطرح سؤالًا هامًا، في صلب هذا الموضوع فإن البحث عن أسباب العلة وظروفها، قد يؤدي إلى الدواء الناجع، والشفاء الحاسم في كثير من الأحيان، الذي أطرحه هو: إذا كان هذا هو أمر الدين والدولة في البداية، فكيف نبتت هذه المشكلة؟؟ وكيف نادى البعض حتى من بعض المسلمين أنفسهم بفصل الدين عن الدولة؟؟
إن هناك عدة ظروف قد ساعدت على ظهور هذه المشكلة المفتعلة الغريبة عن الإسلام ومبادئه وأهله…
أسباب شعار فصل الدين عن الدولة
الأول: النزاع بين الكنيسة والسلطة:
ففي أوروبا ساد صراع رهيب طويل بين الكنيسة ومنازعيها في السلطة، إن للدين المسيحي طبيعته ومبادئه، وكان لرجال الكنيسة سلوكهم ومفاهيمهم الجامدة، ومن منا لا يعلم من الخلافات المذهبية بين الكنيسة الشرقية والغربية، أو بين الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذوكس، وعن الحرب الدامية التي ساقوا إليها الأباطرة والحكام، وكانت مثلًا للوحشية والتعصب والدمار؟ ومن منا لا يعرف الكثير عن موقف رجال الكنيسة من حرية الفكر وحرية العقلية الناهضة في أوروبا، وخاصة فيما يتعلق بالكون وسننه والكشف عن القوانين الطبيعية المختلفة الخاصة بدوران الأرض، والجاذبية وحركة النجوم، وفسيولوجيا الإنسان… إلخ. لقد وقفت الكنيسة من هذه الكشوفات العلمية موقفًا عنيدًا، كان للكنيسة تفسيرها الخاص، ونظرياتها الجامدة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكان علماء النهضة بتجاربهم ومشاهداتهم ودراستهم قادرين على دحض نظريات الكنيسة وتأويلاتها التعسفية، فوقع الصراع بين الفكر الحر الناهض المدعم بالدليل والبرهان، وبين الفكر الكنسي الجامد الذي افتعله رجال الدين في القديم، وتشبثوا به، ظنًا منهم أن التنازل عنه إنما هو ضياع لهيبة الكنيسة، وانحسار لهيبة الدين وسلطانه، وزعزعة لعقائده، فأصبحت المعركة معركة حياة أو موت، ومن ثم كانت المحاكمات القاسية ذات الطابع الديني لرجال الفكر والعلم، وكان الحكم بالموت حرقًا أو قتلًا، وكان السجن لوأد الملكات الإنسانية، وثمرة الفكر الإنساني الحر المنطلق من قيود العنف والقهر والتفسيرات الزائفة التي لا يسندها منطق قوي، أو دليل أكيد…
وبمرور الزمن انتصرت الحقائق الباهرة، وتوارى الزيف والعسف، لكن ضرورة الدين، ودوره الحاسم في الحياة جعل طائفة من المفكرين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة… عن العلم… عن الحياة المادية، وجعله علاقة محدودة في بعض الطقوس بين العبد وربه.
إذن -أيها الإخوة- كان لهذه الدعوة في أوروبا، وفي ظل المفاهيم الكنسية، والظروف التاريخية، كان لهذه الدعوة في فصل الدين عن الدولة ما يبررها…
ابن النفيس يسبق هارفي
أما العالم الإسلامي، في ظل القيم الإسلامية الواعية الأصيلة لم يقع في مثل هذه الورطات، كان علماء الطب والفلك والرياضة والطبيعيات والكيمياء والزراعة وغيرها، يفكرون في حرية، ويعبرون عن فكرهم دون قيود أو تعسف، كابن الهيثم يقدم نظرياته في «البصريات» فتنال التقدير والإعجاب، والرازي وابن سينا، يتحدثون عن الحصبة والجدري وأمراض الكلى والملاريا، ويقدمون المجلدات الضخمة التي ما تزال بين أيدينا دون أن يتهمهم أحد بالكفر أو المروق، وابن النفيس يقدم اكتشافه عن الدورة الدموية «قبل هارفي بمئات السنين»، فلا يرميه أحد بالفسوق، والشاعر ابن الخيام يسجل كشوفه من التوقيت الشمسي ونظرياته في الفلك، فيمده الحكام بما يحتاج من أدوات وأموال، ويقوم المترجمون بترجمة الكثير من ثمار الفكر الإغريقي والروماني والفارسي، فينالون المكافآت من ذوي السلطان، وينالون التقدير من علماء الدين، وابن خلدون، يتكلم عن «المجتمع» وحركة التاريخ ويفتح آفاقًا جديدة للفكر الإنساني، فيحظى بالتكريم، ولم يكن هناك في العالم الإسلامي سوى بعض الخلافات البسيطة المتعلقة بالتوحيد هل القرآن مخلوق أم لا؟؟ صفات الله… إلخ، وكانت مثل هذه الخلافات محصورة وبسيطة أنعشت الفكر وأثرته، ولم تقف عقبة في طريقه، كما كان هناك بعض الخلافات السياسية التي لبست ثوب النظريات في بعض الأحيان وكان كل فريق يستمد أدلته ومستنداته -إن حقًا أو تعسفًاـ من مبادئ الدين، واجتهادات العلماء، وهذه هي الأخرى بقدر ما أثارت من بعض الفتن، قدمت الكثير من الانفتاح الفكري، والجهد الإنساني الذي لا يغفل… تلك هي قصة فصل الدين عن الدولة في أوربا وما لابسها من موقف الكنيسة من رجال الفكر، وموقفها من استغلال الدين والدهماء لابتزاز الأموال، وتطويع الشعب والحكومة لخدمة مصالحها ونزواتها، مما نجا منه عالمنا الإسلامي، ولم يقع بحمد الله في هوته السحيقة المظلمة، إن شعار فصل الدين عن الدولة شعار أوروبي، وبضاعة محلية لهم، ولا سوق لها في بلادنا، ولا حاجة لنا فيها.
تلك هي النقطة الأولى، ولعلها أهم النقط وأخطرها.
الثاني: حقد صليبي قديم:
أما السبب الثاني الذي من أجله انطلق شعار فصل الدين عن الدولة، فهو حقد صليبي قديم، يغذيه التعصب والخوف… والخوف كيف؟؟
إن النزعة الصليبية لم تزل متغلغلة في قلوب الغربيين عامة والمبشرين وبعض المستشرقين المنحرفين خاصة.
لأن قيام الإسلام، وانتشاره في فترة قصيرة من الزمن، وتصديه لأكبر إمبراطوريتين في العالم آنذاك، وهما الفرس والرومان، ثم امتداده حتى الصين وساحل المحيط شرقًا، وانطلاقه حتى فرنسا وإنجلترا غربًا، وسقوط الأندلس في قبضة الزحف الإسلامي، وعبور الأتراك إلى أوروبا الشرقية وقيام حضارة ضخمة واعية تقدمية، لها كل مقومات المتفوق العقيدي والعلمي والمادي، وسيطرتها على مقدرات العالم قرونًا عدة، قد أوغر صدر الكنيسة، تلك التي حشت قلوب رعاياها بالحقد والتعصب وكانت الحروب الصليبية التي استمرت قرنين من الزمان نتيجة لذلك التعصب، وهذا التحريض، وكانت هزيمة الجيوش الصليبية الجرارة والقضاء على أحلام الكنيسة، وفجيعة النزعة الاستعمارية الوليدة في آمالها، كل ذلك جعل الحقد الصليبي يفرخ ويزيد، ذلك الحقد الذي جمع أوروبا كي تقضي على الخلافة العثمانية في تركيا، والذي عبر عنه اللورد «اللنبي» حينما احتل بيت المقدس في الحرب العالمية الأولى، ووقف على قبر صلاح الدين قائلًا: «الآن انتهت الحروب الصليبية»، إن الحروب الصليبية لم تنتهِ في يوم من الأيام، وإنما كانت تتخذ أشكالًا وأردية مختلفة، فلما فشلت الجيوش والسلاح في القضاء على الإسلام في نفوس أهله وعقولهم وتراثهم، لجأ الجبناء إلى الحرب الصليبية الفكرية، واستغل الغرب تفوقه الحضاري، والإعجاب بنهضته في جر السذج والجهلاء الذين لم يتعمقوا تراثهم وفكرهم، في جرهم إلى شباك فكره، وإيهامهم بأن الدين معوق للنمو الحضاري والتفوق الإنساني، وأن الدين علاقة بسيطة بين الفرد وربه، وأنه لا علاقة له بالدولة أو الاقتصاد أو السياسة، وردد المخدوعون كلمات الفكر الصليبي كالببغاوات، وبحماس لا يقل عن حماس فلاسفة المبشرين وهكذا انتقلت بضاعة أوروبا إلينا، ساعد على ذلك ما كان يرزح تحته المسلمون من فقر وجهل وتخلف وانحراف عن الدين الصحيح، وما نكبوا به من حكام ظالمين، يوارون أخطاءهم وسوءاتهم ومظالمهم تحت ستار الدين.
الثالث: عزل علماء الدين عن الحياة:
والسبب الثالث أيها الإخوة، هو موقف علماء الدين الإسلامي لقد جمد هؤلاء العلماء على النصوص الجوفاء، وأصبح اهتمامهم بنواقض الوضوء أكثر بكثير من اهتمامهم بحدود الحاكم، وسيره على الجادة، وانصياعه لأوامر الله، وأكثر بكثير من اهتمامهم بمشاكل المسلمين الاقتصادية ونظام المال، وأكثر بكثير من التربية الصحيحة للنشء، وفتح الآفاق أمام الفكر الإسلامي الإنساني والعلمي كي يمضي في تفوقه وتطوره وجهاده، واستطاع الحكام الظالمون والاستعمار الخبيث أن يعزلا علماء الدين عن جماهيرهم، وأن يجعلوا منهم مجرد بطانة للسلطة والسلطان، ويغدقون عليهم من الأموال والمناصب تارة، ومن التهديد والتخويف تارة أخرى، ما يجعلهم يتقوقعون، وينشدون السلامة، وأفقدوهم الوقار والاحترام اللذين كانا رداء العلماء، وأضاعوا عنهم الثقة التي بها عاشوا وكافحوا، ورفعوا أصواتهم بكلمة الحق، وأصبح من الناحية العملية فصل الدين عن الدولة أمرًا واقعًا، واقعًا لم يعبر عنه العلماء بكلماتهم وكتاباتهم، وإن عبروا عنه بسلوكهم وتراخيهم، وانعزالهم من قضايا العصر، والجماهير المتسائلة…
لهذه الأسباب ولغيرها تخلف علماء الدين عن الركب، وأسلموا القيادة لطائفة من المفكرين والساسة الذين تغذوا بلبان الغرب وفلسفاته، ورضخوا لتأثيره ومؤامراته فانطلقت الشعارات المستوردة تزين صدور الصحف، وتملأ الكتب، وترن في قاعات المحاضرات، كي تعمل عملها في قتل الروح الإسلامية، وتمزيق التكامل الإسلامي وعزل الدين في متاحف التاريخ والاتهام…
الحركات الإسلامية الحديثة
بقيت كلمة أخيرة لا بد منها، وأعني بها السبب الرابع لسيادة هذا الشعار الذي ينادي بفصل الدين عن الدولة.
لقد أسلفنا القول بأن بعض المذاهب السياسية في التاريخ الإسلامي، قد أصابها الشطط والمغالاة، وأمعنت في الإغراب والشذوذ، وجرت المسلمين إلى بعض الحروب، وبعض هذه المذاهب أدى خدمات جليلة للفكر الديني والسياسي بلا شك وبعضها أساء إلى الدين إساءات بالغة، ونستطيع أن نقرأ الكثير من ذلك في الكتب المتخصصة، كالملل والنحل للشهرستاني، وكتب الخوارج بطوائفها المختلفة والعباسيين والعلويين والفاطميين والقرامطة والحشاشين والباطنية والقديانية وغيرهم… ولقد اتخذت هذه الخلافات سندًا للمغرضين ومبشري الغرب ومستشرقيه المنحرفين… غير أن الذي يعنيني في هذا المجال، هو الحركات الإسلامية الحديثة التي لعبت أدوارًا ذات أثر بالغ في تاريخنا المعاصر، كان الدافع لهذه الحركات هو إحياء النزعة الدينية، واستعادة مجد الإسلام وشرائعه، وتحدي الهجمات الصليبية الفكرية والعسكرية والسياسية، وجر حكام المسلمين رغبة أو رهبة إلى الطريق الصحيح طريق الكتاب والسُنَّة، مع الأخذ بوسائل الحياة الحديثة في مجالات التكنولوجيا وعلوم الطبيعة والفيزياء والاقتصاد وغيرها، في ظل قيم إسلامية أصيلة لها حق الأخذ والعطاء، دون طمس لشخصيتها ومبادئها.
الحركات الإسلامية وجهًا لوجه مع الاستعمار
وكانت هذه الجماعات أو الحركات الإسلامية تؤدي دورها في ظل ظروف قاسية غاية القسوة، كان عليها أن تقاوم الحكم المتعنت حتى تجد حرية التعبير، وإرادة التغيير، وكان عليها أن تتصادم مع الاستعمار صاحب المصالح، وممثل النزعة الصليبية، وكان عليها أن تواجه أخبث أدوات الفكر والإعلام التي تديرها عقول مدربة خبيرة، وكان عليها أن تقاوم واقعًا مُرًا أليمًا يرتع في أنحاء العالم الإسلامي، مثل نظام للمال أوروبي التقنين، ومنهج للسياسة غربي الصنعة، وتعليم يستمد أصوله من الفكر الغربي، وتقاليد لاهي بالأوروبية ولا هي بالإسلامية… عادات وافدة في الطعام والشراب والملبس والمنتديات… وتيارات متضاربة في الفن بشتى فروعه وألوانه…
أجل… كان الواقع ينوء بالكثير من الخطايا والانحرافات والأفكار والعادات في كل اتجاه هل كانت المهمة إذن مهمة سهلة؟؟
كان على الحركات الإسلامية الحديثة أن تقدم فكرها بلغة العصر.
وكان عليها أن «تقدم البديل» الذي يقوم على أنقاض البناء الذي يراد هدمه…
وكان عليها أن تكتسب رضى الوالغين في الانحراف والزيف من جماهير المسلمين، وتمنع عنهم الخوف والرعب.
وكان عليهم أن يقوموا بالتقنين والتشريع، وكان عليهم أن يهدموا أثر الفكر المضاد وهو يبدو كقلعة حصينة مستعصية على الاقتحام والتدمير…
ولم يكن غريبًا -برغم كل هذا- أن تنال هذه الحركات الإسلامية الحديثة، تأييدًا عريضًا بين جماهير العمال والفلاحين والطلبة وعدد غير قليل من علماء الدين، ولعل الأسباب الرئيسية لهذا التأييد الشعبي هي أن هذه الجماهير بطبيعتها لم يداخل فكرها الانحراف الفكري، ولم تمزقها التيارات الفلسفية المغرضة، كانت على فطرتها تعتز بالدين وقداسته ومثله، كما أن هذه الجماهير لم تكن مصالحها تصطدم بالدين، بل أنه كان مبشرًا بخلاصهم من الظلم السياسي والاجتماعي في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، ولم تكن هذه الجماهير قد ولغت في مفاتن الغرب وتقاليده، ولم تكن قد استوردت لحياتها وقيمها أنماطًا جديدة من المدنية الغربية، وكانت هذه الجماهير بطبيعتها تكره حكم الاستعمار وعملاء الاستعمار، ولم تستسلم في يوم من الأيام لإرادة المستعمر «الكافر» ولا لأذنابه المستفرنجين إن صح التعبير…
ومع هذا التأييد الضخم، وبرغم إيماني بقوة الجماهير ودورها الحاسم في تكييف أحداث التاريخ، إلا أن هذه الجماهير كانت خفيفة الوزن إذا ما وزنت بالقوة الاستعمارية والقوة العسكرية المحلية، وجيش الفكر الزائف الذي يمثل الإلحاد والنفعية والدعارة الاجتماعية… لا أريد أن أطيل الحديث في هذا الجانب، وإنما الذي يعنيني هو أن الحركات الإسلامية الحديثة تصدت لها أكثر من قوة، وضربتها في الصميم دون هوادة، ولم تكن القوى المضادة بقادرة على تصفية الحركة الإسلامية أو تخضيد شوكتها إلا بالعنف البالغ، وواكب ذلك العنف حملة إعلامية بل حملات خبيثة، حاولت تصوير الحركات الإسلامية بالرجعية تارة، والخيانة تارة أخرى، والغوغائية والجهل، ومحاولة تصويرها بأنها عدو للتراث الإنساني الحضاري، ومعول هدم للفنون والفكر… بل وانحراف بالدين الصحيح عن مقاصده، ووجدت القوى المضادة للحركة الإسلامية بعض الحاقدين والطامعين من رجال الدين، فجندوهم لضرب الحركة الإسلامية بنفس أسلوبها، بحجة أن الدين ليس احتكارًا لأحد، بل بحجة أنهم هم الحماة الرسميون للدين وصدرت الفتاوى الغامضة، والمقالات الطنانة في هذا السبيل…
ولم تقف الحركة الصليبية، أو الفلسفة المادية، أو الفكر المستور المنحرف… كلها لم تقف إزاء هذه الأحداث موقف المتفرج، بل حاولت أن تعيد النظر في أمر الدين ككل، وعادت لتردد شعارات فصل الدين من الدولة، مستغلة ما يجري على أرض الواقع، بل وتمادى بعضها، وأعلن شعارات الماركسية دون مواربة، وهكذا صودرت كلمات الفكر الإسلامي أو سجنت أو شردت.
تلك هي الأسباب التي أراها تآزرت وفعلت فعلها في إبراز هذا الشعار الذي لم يكن له وجود في عصور الإسلام الأولى وهو شعار فصل الدين عن الدولة… وعلى الرغم من أن المشكلة -كما قلت- لم يكن لها وجود في تاريخنا الإسلامي، ولا في قاموسه السياسي، إلا أنني أراني مضطرًا لإلقاء الضوء على الحياة الإسلامية الأولى مركزًا على الجانب السياسي فيها دون غيره، حتى يكون الأمر أكثر وضوحًا وشمولًا، فيما يدبر ضد فكركم وتاريخكم من مؤامرات، وحتى تدركوا الخطأ الجسيم، بل العصيان الواضح لمبادئ دينكم القويم، ثم ترفعوا عقيرتكم وأقلامكم الحرة المؤمنة في مواجهة أعداء الحركة الإسلامية، والكائدين لها(1).
________________________________________________
(1) تم نشره في العدد (34)، 5 رمضان 1390هـ/ 3 نوفمبر 1970م.