اصطفى الله الأنبياء والمرسلين من بين الناس، وقص علينا في القرآن قصصهم للتأسي والاقتداء بهم، وقد جاء الأمر بذلك صريحًا فقال الله تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) (الأنعام: 90)، وقد بيّن تعالى أحوالهم في كل ما يعتري النفس البشرية من حوادث، وما تتفاعل به معها من مشاعر؛ كخوف ورجاء وفرح وحزن وضيق وسعة وغيرها، ومن تفقّد القرآن وجد كثرة ذكره ما ألمَّ بالرسل من نوازل، وكثرة ثناء الله على صبرهم وثباتهم فيما ابتلاهم به، لتكون تلك القصص وما فيها برداً وسلاماً على قلوب تُلهبها نيران الابتلاءات.
ومع شدة النوازل في هذه الأيام، تتأكد الحاجة لتأمل ذلك لتشدد على القلوب وتثبتها، وفيما يلي تأمل في نوازل ألمت بنبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي أمرنا الله وتعالى بالتأسي به: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (الممتحنة: 4).
1- ما نزل به عليه السلام من الفراق:
قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: «جاءَ إِبْرَاهِيمُ ﷺ بِأُمِّ إِسْمَاعِيل وَبابنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِي تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فوْقَ زَمْزَمَ في أَعْلَى المسْجِدِ، وَلَيْسَ بمكَّةَ يَؤْمئذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوضَعَهَمَا هُنَاكَ، وَوضَع عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيه تَمرٌ، وسِقَاء فِيهِ مَاءٌ. ثُمَّ قَفى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فتَبِعتْهُ أُمُّ إِسْماعِيل فَقَالَتْ: يَا إِبْراهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهَذا الْوادِي الَّذِي ليْسَ فِيهِ أَنيسٌ ولاَ شَيءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلكَ مِرارًا، وَجَعَلَ لاَ يلْتَفِتُ إِلَيْهَا، قَالَتْ لَه: آللَّهُ أَمركَ بِهذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَت: إِذًا لاَ يُضَيِّعُنا، ثُمَّ رجعتْ..» (صحيح البخاري، 3365).
وقد بين هذا الأثر أخلاقًا عظيمة تحلى بها نبي الله إبراهيم وزوجته هاجر عليهما السلام في تلك المحنة، منها:
– الصبر: حيث صبر على فراق ولده وزوجه، وتركهم وحدهم دون أنيس أو زاد يطمئنه على حالهم، وقد صبرت هاجر عليها السلام كذلك على وحدتها دون زوج، ثم على بكاء طفلها الرضيع الذي لا تتحمله الأم بطبيعتها الجبلية، ثم على البحث عن الماء والطعام في هذا المكان القفر.
– اليقين وعدم اليأس: فيقين هاجر عليها السلام في رحمة الله تعالى جعلها راضية مطمئنة؛ فلم تخف ولم تتساءل عن حكمة من كل هذا، بل استسلمت لقضاء الله سبحانه، وحينما نفد الطعام والشراب أخذت بالأسباب الممكنة فبحثت عنه دون يأس، وبعد عدة محاولات غير مجدية لم تُثن عن الإصرار؛ بل استمرت فيه حتى أتاها الفرج بعد سبع محاولات.
– اللجوء إلى الله ودعائه: فدعاء إبراهيم عليه السلام: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم: 37) يعكس رقة قلبه بحالهم حين تركهم، ويحوي في نفس الوقت طمأنينة وسكينة تجاههم، وقد أثمر ذلك التوكل على الله تعالى بدعائه بكل ما يتمناه لهم من رزق معنوي ومادي.
ومآل صبر إبراهيم عليه السلام أن استجاب الله تعالى له؛ فرزق أسرته بمن يؤنسهم، ورزقهم ببئر زمزم، وجعل خاتم النبيين من تلك البقعة المباركة ومن ذلك النسل الشريف، وجعل سعي هاجر عليها السلام نسكًا للمسلمين إلى قيام الساعة ليذكرهم بعدم اليأس والأخذ بالأسباب وقت النوازل مهما اشتدت.
2- ما نزل به من الاستضعاف والفتنة في الدين:
دعا إبراهيمُ عليه السلام قومَه وحاججهم ودحض حججهم في عبادة الأصنام، ولتمكن الكفر منهم قد استضعفوا المسلمين عامة وإبراهيم خاصة فقرروا حرقه؛ (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ {68} قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ {69} وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (الأنبياء).
وفي ذلك تتجلى أخلاق جليلة تحلى بها إبراهيم عليه السلام منها:
– التضحية: فلم يجامل الكفار أو يداريهم مخافة القتل، ولكنه آثر التضحية بنفسه في سبيل دعوته.
– التخلق بآداب المناظرة والحكمة: فقد جادل الكفار وأبطل حججهم بالعقل ودقيق الكلام حتى لم يجدوا مخرجًا من حجته إلا قتله.
– التوكل على الله: فتوكل على الله وفوض أمره إليه في كل أموره، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: «حسبي الله ونعم الوكيل: قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 173)» (صحيح البخاري، 4564).
ومآل ذلك أن قد نجاه الله تعالى ورد كيد أعدائه عنه؛ لتكون تلك النازلة مؤنسة لقلب كل مسلم خذله القريب قبل البعيد، فحسبه من بيده ملكوت كل شيء.
3- ما نزل به من البلاء حيال الولد:
رُزق إبراهيم عليه السلام الولد بعد زمن طويل وعلى شوق كبير، ولما كبر وبلغ معه السعي ابتلاه الله عز وجل بلاءً مبينًا بالتضحية به، بل ازدادت شدة الابتلاء بأمره بذبحه بيده، قال الله تعالى يقص علينا قصته: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ {100} فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ {101} فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ {102} فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ {103} وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ {104} قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {105} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ {106} وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات).
ويظهر في سلوك نبي الله إبراهيم عليه السلام حيال هذه النازلة أخلاق وصفات، منها:
– بر الآباء للأبناء والعكس: فقد أعان كل منهما الآخر على الامتثال لأمر الله عز وجل وتقديم محابه وطاعته على محابهم رغم عظم التضحية.
– العزيمة والإرادة: فقد تحلوا بالجد فيما يرونه صوابًا، ويتأكد ذلك في أوقات الشدائد -كما حصل معهم- وذلك لما قد يصيب الإنسان من وهن عادةً من جراء ما لحق به من آثارها.
ومآل ذلك أن الله تعالى جزاهما عن امتثالهما لأوامره بالفداء بذبح عظيم، وجعل ذلك للمسلمين نُسكًا يُذكرهم برحمة الله لعباده، وأنه سبحانه وتعالى يقابل الإحسان بأحسن منه، فيمتثلوا أمره ويقدموا محابه على محاب أنفسهم.
إن الكثير من الابتلاءات التي تنزل بالإنسان تمحصه؛ فإما أن يُفتن بها وينتكس، وإما أن يثبت فيعلي الله تعالى قدره ويؤول أمره إلى الخير، وينبغي أن يستلهم المسلمون تلك العبر من هذا القصص الجليل للنبي الكريم إبراهيم عليه السلام فيما يمرون به من نوازل؛ حتى يثبتوا ثباته ولا يفتنون في دين أو دنيا.