العفو، اسم من أسماء الله الحسنى يأنس به المسيء، ويطمئن إليه التائب، ويستجير به العائد لله بعد ندم على معصية، ونسأله به سبحانه في الليالي الأخيرة من شهر الصيام أن يعفو.
والعفو لغة مصدر عفا يعفو عفواً، والعفو هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصلح المحو والطمس، وعفوت عن الحق: أسقطته كأنك محوته عن الذي عليه(1).
ومعنى العفو اصطلاحاً هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب(2)، وعن الصفح اصطلاحا هو ترك التأنيب(3)، وقد رغب الشرع الحكيم في قيمة العفو والصفح وحث عليهما خاصة عند المقدرة على القصاص وفي مواطن قد يصعب على الإنسان العادي العفو فيها مثل ما يمس الأعراض فيقول ابن كثير: هذه الآية نزلت في الصديق حين حلف ألا ينفق على مسطح ابن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال، فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على من أقيم عليه، شرع الله تبارك وتعالى وله الفضل والمنة، يعطف الصديق على قريبه ونسيبه وقد كان ابن خالته، وكان مسكيناً لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه، وأقيم الحد عليه فنزلت الآية: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور: 22)، فقال الصديق: بلى.
فإليكم 5 مسائل في العفو لنتأسى ونعمل:
أولاً: العفو والصفح في كتاب الله:
حث الله عز وجل على الصفح والعفو بين المؤمنين بعضهم بعضاً فيقول تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199)، وقال تعالى: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 109)، وقال عز وجل: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة: 13)، وقال سبحانه: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر: 85)، وقال تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ {133} الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران).
قال ابن تيميّة: ذكر الله تعالى في كتابه الصّبر الجميل والصّفح الجميل والهجر الجميل، الصّبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه.
ثانياً: العفو في السُّنة النبوية:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد العفو عبداً إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» (رواه مسلم)، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم» (رواه احمد والبخاري)، وعن عبدالله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: «اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة» (رواه أبو داود).
ثالثاً: من أقوال السلف في العفو:
جلس ابن مسعود يوماً في السوق يبتاع طعاماً فابتاع، ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حلت، فقال: لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، اللهم افعل به كذا، فقال عبدالله: اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنبه(4).
وعن عمر بن عبدالعزيز قال: «أحب الأمور إلى الله ثلاثة: العفو في القدرة، والقصد في الجدة، والرفق في العبادة، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة»(5).
وعن أيوب قال: «لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عنهم»(6).
رابعاً: العفْوُ من صفات الله والعفُوّ من أسمائه الحسنى:
وما يعظم خلق العفو، أنه صفة من صفات الله تبارك وتعالى حيث يقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (النساء: 43)، وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (الشورى: 25).
ومن جميل عفو الله سبحانه أنه يعفو ويصفح ويغفر لمن تاب مهما عظم الذنب وكثر، ومهما أسرف العبد في ظلم نفسه بالذنوب طالما رجع وأناب وندم غفر له جميع ذنوبه وخطاياه، كما قال سبحانه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عزوجل: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة» (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح).
خامساً: من فوائد العفو والصفح:
للعفو فوائد نفسية واجتماعية جمة، فهو خلق إذا انتشر بين الناس نشر قيمة الرحمة والمودة وتوثيق للروابط الاجتماعية بين المسلمين، خاصة ذوي الرحم منهم، ثم هو سبب لنيل عفو الله عز وجل والحصول على مرتبة من مراتب التقوى، وهو سبيل للراحة والسلام النفسي، والطمأنينة والسكينة وشرف النفس.
سادساً: نماذج من عفو النبي صلى الله عليه وسلم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ القمة والدرجة العالية في العفو والصفح، كما هو شأنه في كل خلُقٍ من الأخلاق الكريمة، فكان عفوه يشمل الأعداء فضلاً عن الأصدقاء.
وكان صلى الله عليه وسلم أجمل الناس صفحاً، يتلقى من قومه الأذى المؤلم فيعرض عن تلويمهم أو تعنيفهم أو مقابلتهم بمثل عملهم، ثم يعود إلى دعوتهم ونصحهم كأنما لم يلق منهم شيئاً.
وفي تأديب الله لرسوله بهذا الأدب أنزل الله عليه في المرحلة المكية قوله: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ {85} إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) (الحجر)، ثم أنزل عليه قوله: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الزخرف: 89)، فكان يقابل أذى أهل الشرك بالصفح الجميل، وهو الصفح الذي لا يكون مقروناً بغضب أو كبر أو تذمر من المواقف المؤلمة، وكان كما أدبه الله تعالى، ثم كان يقابل أذاهم بالصفح الجميل، ويعرض قائلاً: سلام.
وفي العهد المدني لقي الرسول صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة أنواعاً من الخيانة، فأنزل الله تعالى عليه قوله: (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة: 13)، فصبر الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم وعفا وصفح، حتى جاء الإذن الرباني بإجلائهم، ومعاقبة ناقضي العهد منهم.
وعن أسامة بن زيد قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى؛ قال الله تعالى: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) الآية (آل عمران: 186)، وقال: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) الآية (البقرة: 109)، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو عنهم ما أمر الله به» (رواه البخاري).
وعن أبي عبدالله الجدلي قال: قلت لعائشة: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله؟ قالت: «كان أحسن الناس خلقاً لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً بالأسواق ولا يجزئ بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح» (رواه الترمذي)(7).
___________________
(1) لسان العرب، ابن منظور.
(2) مقاييس اللغة، ابن فارس.
(3) التوقيف على مهمات التعاريف.
(4) إحياء علوم الدين، الغزالي (3/ 184).
(5) روضة العقلاء، ابن حبان البستي، ص167.
(6) المصدر السابق.
(7) مرجع هذا المقال من موسوعة الأخلاق، ج 10، ص.5