تتشوف الأمة الإسلامية أكثر من غيرها إلى النهوض الحضاري من جديد، ليس لأنها فقط كانت الحضارة الإنسانية الأولى في يوم من الأيام، بل لأنها في الفكر الإسلامي نفسه هي الأمة الخاتمة لرسالات الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وهي الوارثة لما تحمله هذه الرسالات من قيم الحق والعدل والرحمة للعالمين، ولأنها تحمل منهج الله ورسالته العالمية الأخيرة إلى البشرية جمعاء وإلى قيام الساعة، ولأنها الأمة المعنية بإكمال رسالة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله رحمة للناس أجمعين؛ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، ولأنها المعنية بقول الله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، وبقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).
من أجل هذا وغيره كانت الأمة الإسلامية أحرص من غيرها على هذا النهوض الحضاري الذي يليق بها وبمكانتها عند الله وعند الناس.
ومن أجل هذا التشوف الإسلامي لذلك النهوض الحضاري، ترى أن كل مسلم مؤمن بدينه ورسالته يبحث عن دوره ومكانه في صرح تلك الحضارة الإسلامية المنشودة، وترى كل مؤسسة من مؤسسات المجتمع المسلم حريصة على القيام بواجبها المنوط بها لتحقيق ذلك الانبعاث الحضاري المطلوب، ومن هذه المؤسسات الأساسية الأسرة.
فالأسرة اللبنة الأساسية في المجتمع، وهي المؤسسة التربوية الأولى التي تشكل وعي الفرد وفكره ومشاعره وسلوكه، وبنجاحها في القيام بدورها تقترب الأمة من تحقيق غايتها، ولا أمل يرجى في إقامة أي نهضة مع فشل مؤسسة الأسرة ومنظومتها، ولذلك اتفقت كلمة كل «فقهاء النهضة الإسلامية» على أهمية دور الأسرة في عملية النهوض الحضاري عموماً، والنهوض الحضاري الإسلامي على وجه الخصوص.
فما الدور المطلوب من الأسرة لتحقيق ذلك الهدف الكبير؟ بل كيف تستثمر مؤسسة الأسرة إمكاناتها لتعود بأكبر مساهمة مؤثرة وفاعلة في مشروع النهوض الحضاري الإسلامي؟
إن النهضة بمفهومها العملي تبدأ بعملية تشخيص دقيق للواقع، وما فيه من جوانب ضعف وقصور وخلل، لتحديد المشكلات الرئيسة التي تكرس التخلف وتمنع الانطلاق الحضاري، وما يتعلق بهذه المشكلات من أسباب وعوامل -سواء كانت ظاهرة أم عميقة، حاضرة أم تاريخية- لتصل بالنتيجة إلى معالجات مؤثرة وفاعلة تحقق الانبعاث الحضاري من جديد وتستأنف الحضارة الإسلامية العالمية ورسالتها الخالدة.
وبلا شك أن الأسرة -السليمة في بنيانها المستقرة في علاقاتها- خير عون للفرد والجماعة للقيام بهذه العملية الدقيقة وما يتعلق بها، وذلك بما توفره الأسرة من مرجعية شرعية منسجمة مع هوية الأمة ومع أهداف النهوض الحضاري المأمول، وبما تلبِّيه من حاجات -مادية ومعنوية- تحقق السواء النفسي والرضا الداخلي لأفرادها للقيام بواجباتهم على أكمل وجه، لتكون الحصن الذي يحمي، والمنطلق الذي يبني، والداعم الذي يعين على إكمال الطريق.
ولكن إذا ما أردنا تجاوز هذا الدور التقليدي للأسرة إلى مستويات أكثر إثماراً ونفعاً في مشوار النهضة، فإننا سنتحدث عن دور الأسرة في صناعة «إنسان النهضة»، ذلك الإنسان الذي يمتلك من الأفكار والمعارف، والخبرات والمهارات والتجارب، ما يؤهله للقيام بتلك المهمة الكبيرة.
فالأسرة في عصر النهضة تمارس دوراً مهماً في تشكيل ثقافة النهضة الضرورية لإحداث التغيير الاجتماعي اللازم للعصر الجديد، وذلك من خلال مساهمتها في صناعة روح النهضة التي تنقد الحاضر دون عزلة، وترسم معالم المستقبل دون مبالغة، وتعمل في الممكن المتاح دون كلل أو ملل.
وللأسرة في عصر النهضة دور في تزويد إنسان النهضة بما يحتاجه من معارف ومهارات، كمهارة التفكير العلمي والمنطقي التي ترصد مشكلات النهضة وتشخِّصها بدقة بالغة، لتحددها وتعرف أسبابها وتاريخها ومراحل تطورها في واقع الناس، لتُعرفَ مكامن قوة تلك المشكلات ومحال ضعفها، وكيفية التعامل معها.
كما تساهم الأسرة في تعريف أفرادها بقوانين النهضة وسننها ليحسن استخدامها وتسخيرها، وتدرس معه تجارب النهضة ونماذجها الإسلامية والإنسانية، حتى يضيف إلى عمره من الخبرات التفصيلية ما يؤهله لاستثمار معارفه فيها في مسيرته النهضوية، والأسرة في عصر النهضة تزود أفرادها بتصور واضح عن الثوابت والمتغيرات في نموذجه الحضاري الذي يسعى إلى إقامته في واقع الناس، حتى لا يبدل ثابتاً فينحرف عن المشروع ويهدم الأصول من حيث أراد البناء، ولا يجمد على متغير فيؤخر العمل ويعارض سنن الوجود من حيث أراد تجديد الحياة، فالأسرة هي التي تفتح الباب على كل تلك المعارف والخبرات، وتساهم في بيانها أو تعطيلها.
ثم إن للأسرة بعد ذلك أن تقدم من نماذجها وتاريخ أفرادها ما يكون محلاً لفخر الأبناء وسبباً في إكمال طريق الآباء، فالابن يبني على إنجازات أبيه وجده، والبنت تكمل في مشوار أمها وجدتها، لاستنهاض الأمة ومعالجة واقعها، وللعيش مع هذه النماذج العائلية القريبة أثر عميق في البناء التربوي، يجعل من مشاريع النهوض الحضاري إرثاً عائلياً ممتداً ومتطوراً عبر الزمن.
الأسرة في عصر النهضة مؤسسة اجتماعية في غاية الأهمية، وعلى فقهاء النهضة أن يضعوا لها من الخطط والمناهج والنماذج ما يجعلها رافعة من روافع النهوض الحضاري، لا عقبة في طريقه.