كلمة «مودرن» (modern) إنجليزية الأصل؛ ومعناها عصريّ، وهي تطلق على كل ما هو حديث وجديد، لكن التعبير جرى توظيفه بكثافة في توصيف ظواهر مجتمعية وسياسية، أحياناً بشكل إيجابي، وكثيراً بشكل سلبي.
وقد ارتبطت الكلمة، كثيراً، أواخر تسعينيات القرن الماضي، ومطلع الألفية الثالثة، بالدعاة تحديداً، أو «الشيوخ» كما يوصفون في عديد البيئات العربية، وقد كانوا الأكثر حظاً من ذلك الوصف، بمضامينه السلبية، لا الإيجابية.
ومما هو جدير بالأخذ في الاعتبار أنه جرى كذلك توظيف الكلمة بشكل سلبي، من قبل وسائل إعلام مسمومة، بهدف التهكم والسخرية والنيل من رجال الدين ورموز الدعوة إلى الله، من خلال التعريض بما عُرف قبل نحو عقدين بظاهرة «الدعاة الجدد»، «المودرن»، أو «الكاجوال».
ولعل الانتشار السريع لهؤلاء الدعاة، بصرف النظر عن أسمائهم وجنسياتهم، وتنامي تأثيراتهم في أوساط الشباب، والأسر الثرية، كان وراء اشتداد المعركة عليهم، وتكالب سهام النقد نحوهم، مروراً إلى ابتذال المعنى، والربط بينهم وبين حب الشهرة، وتحقيق الثراء السريع، والزواج من فنانات، وارتداء ماركات عالمية في الملبس وغيره.
كان الهجوم الممنهج على الدعاة، الذي تبنته وسائل إعلام وصحف عربية من الأساس، يجري بدوافع بغيضة من الكارهين والحاقدين والعلمانيين، الذين صدمتهم تقلبات المشهد، حينما رأوا الدعاة خارج المنابر التقليدية (المساجد)، بل غزوهم الأندية الشهيرة والمجتمعات الراقية، وقنوات التلفزة ومواقع الإنترنت.
لكن من الرصانة والإنصاف أن نزيل التشوهات التي لحقت بالكلمة، وأن نعيد للتعبير جوهره ومضمونه، وأن نستعيد أدواته، بما يخدم رسالتنا مجتمعياً ودعوياً وثقافياً، دون الخضوع لابتزاز فكري ممن شوّهوا «الدعاة المودرن»، تحقيقاً لمآرب أخرى.
نعم، نحن في حاجة لدعاة «مودرن» يواكبون عصر السماوات المفتوحة، والفضاء الإلكتروني، والذكاء الاصطناعي، وتطبيقات التواصل، والواقع المعزز و«الميتافيرس» وغيره من أدوات العالم الافتراضي.
وقبل أن يستنبط القارئ استنتاجات خاطئة، نؤكد هنا أن هذه ليست دعوة للتخلي عن وقار الداعية، أو التساهل في ضرورة تحصيله العلم الشرعي اللازم، والمؤهلات المطلوبة للإفتاء، كما أنها ليست دعوة للتساهل في الدين تحت شعار «تجديد الخطاب الديني» مثلاً، أو التفريط في حدود الله، وسُنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
إنها دعوة للتجديد والابتكار في وسائل تبليغ كلمة الله، وإعادة نشر رسالة الإسلام، وبث السُّنة النبوية في كل مكان، وبعث التاريخ الإسلامي من جديد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغزو كل فضاء، حقيقي كان أو افتراضي، بما هو طيب ونافع ونبيل.
كذلك هي دعوة لانتشار وتأثير دعوي أوسع، عبر الوصول إلى جميع الجنسيات، والألسنة، ومخاطبة الأفئدة والعقول حول العالم في القارات الست، على وجه الأرض، لنصل إلى أكثر من 8 مليارات إنسان، هم تعداد سكان البشر.
ألسنا في حاجة لدعاة يتقنون اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والصينية واليابانية وغيرها بطلاقة؟ ألا يستحق الإسلام دعاة متمرسين على استخدام كافة وسائل التواصل وتطبيقات المحادثة؟ لماذا لا يغزو الدعاة برامج «الريلز» و«التيك توك» ومقاطع «اليوتيوب»؟
لماذا لا يكون الدعاة هم قدوة الشباب والمراهقين؟ ما المانع من تصدر الدعاة واجهات الشاشات، وقوائم النجوم والمشاهير؟ متى يتصدر الدعاة قائمة أكثر 100 شخصية تأثيراً بالعالم؟
كيف نبتكر منابر جديدة للدعاة؟ كم من مشاهدات يتحصل عليها دعاة «اليوتيوب»، أين «اليوتيوبر الداعية»، أو «الداعية اليوتيوبر»؟
هذه التساؤلات فرضها الواقع؛ لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال غض الطرف عن التطور التكنولوجي الفائق والمتسارع عالمياً، وإبقاء الداعية أسيراً لوسائل تقليدية، أو الإبقاء على الصورة النمطية لـ«الشيخ» خلف جدران المساجد، التي قد يهجرها قطاعات ليست بالهينة من الشباب والأجيال الناشئة، وسط صراع محتدم من «لوبيات» الترفيه والكرة والجنس وغيره؛ لاقتناص الكعكة الثمينة من الزوار والمتابعين والمشاهدين.
دعونا نكسر الحواجز التي فرضها الآخرون على دعاتنا، في محاولة مسمومة لوقف الانتشار السريع لهم، وإجهاض التأثير المتنامي لهم بين جماهير الناس، بينما تُفتح الأبواب على مصراعيها لأشباه الرجال، وأنصاف الموهوبين، وعراة السينما؟
إن المعاصرة التقنية والمواكبة التكنولوجية لهي واجب الوقت، في الدعوة إلى الله، وإن توظيف وسائل الاتصال والتواصل الحديثة لهي ضرورة حياتية ومجتمعية ودعوية، تحتم أن نوظفها كمنابر جديدة، ورسل للإسلام في هداية الآخرين إلى الصراط المستقيم.
وكوني امرأة، هناك ضوابط شرعية بشأن خروجها إلى المسجد، وأن صلاة المرأة في بيتها أفضل، يزيد من حماستي للدفاع عن «الدعاة المودرن»، بل تبني الدعوة لدعم وتعزيز وتوسيع دائرة الدعاة الذين ينشطون على «فيسبوك»، و«تويتر»، و«إنستجرام»، و«سناب شات»، و«تيك توك»، و«واتساب»، و«لينكد إن»، و«وي تشات»، و«جوجل بلس»، و«تمبلر»، و«فلكر»، و«ماي سبيس»، شريطة امتلاك الأدوات اللازمة لذلك، والمؤهلات الشرعية والفقهية والعلمية المطلوبة، والعمل وفق إستراتيجية رصينة ومتكاملة تدعمها الهيئات والمجامع والمرجعيات الإسلامية الموثوقة؛ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.