منذ القرن التاسع عشر، نشطت وتطورت العلاقة بين الشرق والغرب في ظل ازدياد التوسع المالي والعسكري للغرب، ولم يكن هذا التوسع عسكرياً أو اقتصادياً فقط، بل امتد تأثيره إلى الثقافة الإسلامية واتخذ أشكالاً من «الغزو» الفكري للعالم الإسلامي، ومن هنا نشأت حركات النهضة الإسلامية لمقاومة الهيمنة الغربية.
وحركات النهضة هي كل الجهود الفكرية والحركية المتراكمة التي وضعتها نخب ورموز الفكر الإسلامي والعربي، وأخرجتها على شكل مشاريع تحديث فكرية وسياسية، لتحقيق النهضة الإسلامية المنشودة.
مشروعات النهضة الثلاثة
حول مشروعات النهضة الفكرية والثقافية، انقسمت تيارات الفكر في العالم الإسلامي إلى 3 تيارات رئيسة: تيار إسلامي يعبر عن فكر المجتمعات الإسلامية وهويتها، وتيار غربي مناهض لتلك المشروعات النهضوية ذات المرجعية الإسلامية، والتيار الثالث تيار التوافق بين التيارين أو المواءمة بين الفكر الغربي المقتبس والفكر العربي الموروث.
فالتيار الأول تيار رفض الغرب بالكلية، وهم الإسلاميون والمحافظون أصحاب الفكر العربي الموروث الذي يرى أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلحت بها أولها، وشعارهم «لا يأتي من الغرب ما يسر القلب»، ومضمون فكرهم يقوم على فرضية أن نهضة الأمة لا يمكن أن تحدث دون مرجعيتها الدينية والحضارية، أو وفق تعبير الشيخ محمد الخضر حسين: «إن نهضة مجتمع ما تتم في الظروف العامة نفسها التي تم فيها ميلاده، وكذلك يخضع بناؤه وإعادة بناء للقانون نفسه»، وأخذ هذا الاتجاه عدة أشكال وصلت لحد مقاطعة كل ما هو غربي، وظهر هذا الاتجاه في الأربعينيات من القرن الماضي في مصر والأردن وفلسطين، وأبرز من يمثلون هذا التيار، إضافة إلى الخضر حسين، محمد أحمد الغمراوي، ومحمد الغزالي.
وأجاب هؤلاء عن أسئلة كانت حائرة في نفوس جيل الحروب العربية الكبرى، من عينة: كيف نتحرر من التبعية؟ كيف نستطيع مواجهة واقع تأخُّر المسلمين وانحطاطهم؟ كيف نواجه القيم الغربية التي حملها المستعمر؟ وكيف نحقق التقدم وننهض بالأمة؟
وإن كانت الأسئلة مشروعة، لكن الاستجابة لها تنوعت بين من قدم إجابات فكرية، ومن اندمج في حركات منغلقة تكفر مجتمعاتها وتصطدم بها وتنظر للشعوب باعتبارها مغيبة عن دينها وحضارتها وترى وجوب المواجهة للمنكر باللسان واليد معاً، لا القلب وحده!
ثم نأتي للتيار الثاني التغريبي، وهم الذين انبهروا بالغرب وحضارته ورأوا فيه المخلص من الحالة الراهنة للعالم الإسلامي، ومضمون هذا الاتجاه هو ضرورة التبني الكامل للنظم الغربية والمعرفية والقيمية والتحرر من التراث والمرجعيات الفكرية الذاتية، بل ذهب بعضهم إلى أن التواجد الجغرافي في الشرق يدعو إلى التخلف والركود!
انطلق هذا التيار من فكرة التعارض بين تحقيق هوية الأمة، وتحقيق الحضارة الحديثة، وقد اعتبروا أن الحضارة الغربية وصلت للقمة بدون تدين، ولذلك فالتدين أصاب المجتمعات بشلل كبير في جهازها الحضاري.
وأبرز الذين يمثلون هذا الاتجاه أحمد لطفي السيد، ومحمد حسين هيكل، وطه حسين، وعلي عبدالرازق، وسلامة موسي، وإسماعيل مظهر.
أما التيار الثالث فهو التيار التوافقي الذي يرى التوفيق بين الفكر الغربي المقتبس والفكر الإسلامي الموروث، وعملوا على إيجاد القيم النبيلة داخل الحضارة الغربية وتدعيمها وإيجاد مقابلها في الفكر الإسلامي، ورفض قيم الانحلال الخلقي وتبديل الهوية.
احتفظ هذا التيار بعلاقات متوافقة بين التيارين، واعتبروا أن منجزات الحضارة الغربية إهداء من الإنسانية للمسلمين، وعليه فلا غضاضة في قبول الغرب وقبول القيم الديمقراطية شرط توافقها مع قيم الحضارة الإسلامية، وأبرز من مثّل هذا التيار: خيرالدين باشا التونسي، ورفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وطنطاوي جوهري، ومحمد فريد.
ومن هنا شكلت التيارات الثلاثة في العالم العربي رؤية لسبل النهوض انعكست على تيارات فكرية وحركية شملت العالم الإسلامي.
سؤال النهضة وتبعاته
لكن السؤال الذي يطرح نفسه دائماً: لماذا لم تتمكن حركات النهضة العربية الإسلامية من كسب الجولة مع الواقع فكرياً واجتماعياً، رغم أنها أشعلت فتيل الحركات المقاومة ضد الاستعمار منذ بدايات القرن الماضي وصبت في خانة وعي الأمة العربية والإسلامية بسبل النهوض السليمة في أزمنة المحن؟! فمن المستغرب لدى مراكز البحث غياب مشروع متبلور للنهضة العربية فاعل على الأرض رغم أن إرهاصاته انطلقت قبل مائتي عام.
وهنا يكمن «مَكر التاريخ»، وهي عبارة الفيلسوف هيجل، ومفادها أن الإنسان ليس سوى وسيلة في يد الأحداث، ولكنه يعتقد بأنه صانع التاريخ، والواقع أنه فقط ينفذ إرادة التاريخ وفق مسار الأحداث.
لقد باشر كثير من المفكرين الإصلاحيين من دعاة النهضة تحركات ثقافية وإصلاحية، ونظّروا لهذه الأفكار في كتابات مثل شكيب أرسلان في «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟!»، عام 1931م، ثم كتاب «شروط النهضة» لمالك بن نبي عام 1949م.
ونستطيع من خلال ما سبق أن نلخص أسباب ركود حركات النهضة فيما يلي:
– عدم فهم الواقع الداخلي والخارجي للعالم الإسلامي: وذلك بشكل يسمح بدراسة حركات النهضة لمجتمعاتها وتاريخها وآليات التعامل مع العصر.
– الصدام بين حركات النهضة: من أهم سلبيات ظهور حركات النهضة أن يحدث بعض الاختلافات الفكرية التي تؤدي لصدام بدون تنافس واع.
– غياب القيادة الواعية: القيادة الناجحة هي التي تحقق أهدافها في مناخ تنظيمي ترضى عنه القواعد وتملك زمام المبادرة في الوقت المناسب.
– عدم إدراك لمشكلات الشباب وطموحاتهم: معظم حركات النهضة وقودها الأساسي الشباب، والشباب بطبعه متحمس ويميل لتنفيذ أرائه وخبراته الشخصية فيجب استيعاب قدرات الشباب.
– الصدام مع الأنظمة الحاكمة: معظم حركات النهضة انتهت إلى الصدام مع النظم في فترة ما بعد الاستعمار، وأنهكت الأنظمة الحركات، ودفعتها الأنظمة بالتالي إلى العزل السياسي تارة وإلى السجون والمعتقلات تارة أو إلى المنافي الاضطرارية أو الاختيارية تارة أخرى.
– الغلو في طاعة قيادات الحركات ومذهبهم: من أخطر الآفات التي تصيب الحركات والجماعات هي التعصب وإعجاب الاتباع بالقيادة، وتعصب الأفراد بمذهب من المذاهب على حساب مذهب آخر وهو ما يؤدي إلى الإخفاق.
– الجمود التنظيمي وعدم الاستفادة من التجارب: أهم ما يميز الحركات الواعية هو الفهم الواسع والقريحة المتوقدة والذكاء السريع والذاكرة الحية اللاقطة، والجمود التنظيمي على قيادة واحدة متجمدة قديمة يغلق باب الاجتهاد والتطوير.
خاتمة
لقد انتصرت معظم حركات النهضة انتصارًا معنويًا بمعنى إثبات الهوية والوجود لدى شعوبها، وانتصرت الحركات الشعبية في التصدي للتغلغل الاستعماري في البلاد الإسلامية من باكستان إلى المغرب العربي، ومن شرق الهند إلى جنوب أفريقيا؛ لأنها اعتمدت على تقديم التضحيات، لكنها لم تتقدم كثيراً في المجال السياسي بسبب معوقات غربية وداخلية ذاتية.
تخلصت معظم حركات النهضة من التوازنات الخاصة بالحكومات والأنظمة العربية، لكنها في ذات الوقت أصابها إعاقة في التطوير واللحاق بركب التطور، فأصبحت حقلاً للتجارب الحركية والسياسية، وأصبحت تملك فعل المقامة، لكن بدون تعلم من التجارب السابقة والاستفادة من الخبرات المتطورة، ومن هنا فتطوير فعل المقاومة في أداء حركات النهضة العربية بات أمراً في غاية الأهمية لأنها الآن على المحك بين مجتمعاتها وشعوبها واستمرارية أفكارها على الأرض.