مفهوم الحرب النفسية
إجراءات دعائية للتأثير على الخصم بنشر معلومات معينة تهدف إلى تدمير ثقته بنفسه، وشل عقله وتفكيره ونفسيته، وتحطيم معنوياته وبث روح اليأس بين جنود العدو، وتوجيه جنوده كذلك لرفع الروح المعنوية وحلفائه، وسلاح الحرب النفسية الأفكار والكلمات، وهو ما يطلق عليها حديثًا الدعاية والشائعة وغسيل الدماغ(1).
واستخدام الدعاية النفسية ضد الخصم موجود منذ القدم حتى يومنا هذا، وكذلك في النواحي الشخصية والحوارات اليومية، والتفاوض في البيع والشراء وغير ذلك، وقد أشار القرآن الكريم إلى الحرب النفسية بين المؤمنين وأعدائهم في كثير من الآيات، ومنها قوله سبحانه: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) (الأنفال: 62)، (يأيها النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) (الأنفال: 65)، وقوله تعالى: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا) (غافر: 45).
أسلوب الرسول ﷺ في الحرب النفسية
كان رسول الله ﷺ يوظف الحرب النفسية في غزواته توظيفًا مثاليًّا وفقًا للوضع العام الذي يتطلبه الموقف كالتالي:
1- الحرب النفسية في الأغراض الدفاعية:
يوظف رسول الله ﷺ الدعاية النفسية في حالة تفوق العدو في العدد والعتاد؛ لخفض روحه المعنوية، وبث روح اليأس من النصر؛ فتتصدع وحدته وقناعاته من جدوى القتال؛ وبالتالي تصبح قوة العدو ليس لها تأثير في المعركة؛ وقد بدا ذلك في حروب الرسول ﷺ مع قريش في غزوات «بدر»، و«أحد»، و«الأحزاب» التي كان عددهم أضعاف أعداد جيشه.
وأخذ رسول الله ﷺ في غزوة «بدر» يرفع معنويات جنوده بأساليب متنوعة بالدعاء والتضرع وتبشيرهم بالنصر والتقليل من قوة العدو؛ فبشر جيشه بقتل زعماء قريش، والجنة لمن يُقتل من المسلمين حيث قال: «أبشروا، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم»، ثم انحط إلى بدر؛ وأقسم أنه «لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة(2).
وفي غزوة «الأحزاب» لما اشتد الخوف وعظم البلاء، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، وبلغ الظنون بالمسلمين، ونقض بنو قريظة عهدهم مع رسول الله ﷺ وتحالفوا ضدهم، فعظم الكرب واشتد الفزع عند ذلك أخذ رسول الله ﷺ يدعو على الأحزاب، ويبشر المسلمين بفتح بلاد كسرى وقيصر، ويقول: «الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين»، فقال أحد المنافقين: محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط(3)!
ولما أسلم نعيم بن مسعود من قبيلة غطفان التي تحاصر المدينة يوم الأحزاب، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، ولم يعلم قومي، فمرني بما شئت، فقال له رسول الله ﷺ: «إنما أنت رجل واحد؛ فخذّل عنا ما استطعت؛ فإن الحرب خدعة»؛ فسعى بين بني قريظة وقريش حتى أفسد حلفهم، وانكسرت قوتهم(4).
وبادر رسول الله ﷺ بمهاجمة القبائل التي تسعى لقتاله؛ فيباغتهم، ويشتت قوتهم؛ فيهربون ويعود المسلمون بالغنائم؛ فخرج إلى «ذي القَصَّة» لقتال بني ثعلبة وبني محارب؛ فلما بلغهم مسيره إليهم هربوا إلى رؤوس الجبال؛ فعاد دون قتال، وبلغه تجمع بني سليم لقتاله؛ فسار إليهم؛ فوجدهم تفرقوا؛ فعاد بالغنيمة(5).
وحاول أبو سفيان في غزوة «أحد» أن يشق صفوف المسلمين، ويحيد الأنصار بأن يخلوا بينه وبين ابن عمه، فهو لا يريد قتالهم، فردوا عليه بما يكره(6).
وأثناء القتال أشاعوا قتل رسول الله ﷺ مما كان لها أثر سيئ في نفوس المسلمين؛ فترك جماعة من المسلمين القتال، وقالوا: ليت لنا من يأتي عبدالله بن أبي بن سلول ليأخذ لنا أمانًا من أبي سفيان قبل أن يقتلونا، ووجد أنس بن النضر عمر، وطلحة في رجال من المهاجرين قد ألقوا ما بأيديهم في ذهول لا يقاتلون؛ وقالوا: قُتل رسول الله، فقال لهم: فما تصنعون بالحياة بعده؟ موتوا على ما مات عليه، فأخذ يقاتل حتى قُتل(7).
وشرع أبو سفيان في الإجهاز النفسي على المسلمين وإعلان انتصاره بقوله: اعلُ هُبل؛ فقام رسول الله ﷺ بتوجيه أصحابه إلى الرد عليه: «الله أعلى وأجل»؛ فقال أبو سفيان: إنا لنا العزى ولا عزى لكم؛ فردوا عليه: «الله مولانا ولا مولى لكم»(8).
وبعد «أُحد» توقع رسول الله ﷺ عودة المشركين للقتال، فسار لملاقاتهم حتى موضع «حمراء الأسد»، وطلب من معبد الخزاعي أن يُخذِّل المشركين عن العودة للقتال؛ فلما قابل أبو سفيان حدثه عن كثرة المسلمين، وإصرارهم على تتبعهم والثأر والانتقام ليوم أمس، فأثّر ذلك في نفوسهم وانسحبوا بعد أن كانوا عازمين الزحف إلى المدينة(9).
2- الحرب النفسية في الأغراض الهجومية:
يتجه رسول الله ﷺ إلى الاستعراض العسكري لجيشه، لإبراز قوته، وبث الخوف والفزع في نفوس عدوه؛ فتضعف عزيمته عن قتاله، ويقضي على كل أشكال المقاومة ويشجع روح الاستسلام لديهم، كما حدث في «فتح مكة»؛ حيث سار بـ10 آلاف مقاتل من عدة قبائل، وأمر كل قبيلة أن تشعل نارًا حتى يراها جواسيس قريش؛ وأخذ يستعرض القبائل أمام أبي سفيان مما أدهشه قوة الجيش، وقسّم جيشه لدخول مكة من جهاتها الأربع، وأرسل أبا سفيان قائدهم السابق يحذرهم، فقال لهم: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به! يا معشر قريش، أسلموا تسلموا(10)!
إستراتيجية رسول الله ﷺ في الحرب النفسية
تقوم إستراتيجية رسول الله ﷺ في غزواته على خداع العدو ومباغتته وتضليله بمعلومات غير حقيقية، والكتمان وسرعة الحركة واستخدام أساليب جديدة غير متوقعة؛ فتحدث المفاجأة صدمة للعدو، وقد أشار رسول الله ﷺ بقوله: «الحرب خدعة»، إلى استخدام الحيلة وتضليل العدو بمعلومات كاذبة، والتعريض والكمين وغير ذلك، وكذلك الحذر مما يدبره العدو من حيل(11).
وكان هدي رسول الله ﷺ في الغزوات والسرايا خداع العدو وتضليله؛ فقلَّمَا يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّى بغيرها؛ ليوهم العدو؛ فيسأل عن جهة وطريق معين ويقصد أخرى ليكون أنكى للعدو حتى يمنع الجواسيس من نقل أخبارهم، وإنما يريد أن يصل إليه دون استعدادهم(12).
وفي غزوة «بدر» كانت مفاجأة لقريش كبيرة عندما وجدوا المسلمين أمامهم في مواقعهم التي اختارها رسول الله ﷺ بعناية، وهم في موضع ليس لهم فيه اختيار، وأصبح الماء بحوزته وهو المتحكم فيه دونهم؛ فأثر العطش فيهم وأضعف قدرتهم على القتال(13).
ولما حاولت قريش الهجوم على المدينة في غزوة «الأحزاب» وقفوا على الخندق؛ فلما رأوه قالوا: والله إن هذا لمكيدة ما كانت العرب تكيدها(14).
وأمر رسول الله ﷺ الناس بالتجهز لفتح مكة، وقال: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها»، ومنع الخروج من المدينة مخافة تسرب الخبر إلى قريش(15)، وقد أدى التخطيط الفذ الذي وضعه رسول الله ﷺ إلى إرباك قريش؛ فشعروا أنهم غير قادرين على الوقوف أمام هذا الجيش الكبير أو مقاومته بأي شكل؛ فدخلها دون مقاومة تذكر.
____________________
(1) د. فهمي النجار، الحرب النفسية، دار الفضيلة، الرياض، 2005م، ص156.
(2) شرح صحيح مسلم، كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم (1763).
(3) ابن كثير، السيرة النبوية، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1421هـ/ 2000م، ج3، ص82.
(4) المرجع السابق، ج3، ص89.
(5) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار الكتاب العربي، بيروت، 1417هـ/ 1997م، ج2، ص31-34.
(6) المرجع السابق، ج2، ص42.
(7) المرجع السابق، ج2، ص46-47.
(8) المرجع السابق، ج2، ص47.
(9) الكامل في التاريخ، ج2، ص52.
(10) المرجع السابق، ج2، ص117.
(11) ابن حجر، فتح الباري، كتاب الجهاد والسير، باب الحرب خدعة (6/ 158)، (3029).
(12) المرجع السابق، كتاب: الجهاد والسير، باب: باب من أراد غزوة فورى بغيرها (2788)، ج6، ص133.
(13) المرجع السابق؛ كتاب: المغازي، باب شهود الملائكة بدرًا، شرح حديث (3743).
(14) ابن كثير، السيرة النبوية، ج3، ص84.
(15) الكامل في التاريخ، ج2، ص117.