أسفرت الانتخابات المحلية التي أجريت في تركيا في 31 مارس الماضي عن تراجع العدالة والتنمية للمرة الأولى منذ تأسيسه وتسلمه الحكم في تركيا أمام خصمه التقليدي وحزب المعارضة الأكبر الشعب الجمهوري.
كانت النتيجة صدمة للمتابعين للشأن السياسي التركي، وبالتأكيد أنها لم تكن في حسبان أكثر المعارضين تفاؤلاً أو أكثر مناصير أردوغان تشاؤماً، ولا يعود سبب المفاجأة في النتيجة في كونها أول خسارة للحزب الحاكم فقط، ولكن أيضاً لأنها أتت بعد عشرة أشهر من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الحاسمة التي جدد فيها الناخبون الأتراك الثقة بأردوغان رئيساً وثبتوا لتحالفه الحاكم أغلبية البرلمان.
فكيف كانت النتائج؟ وما أهم أسبابها؟
حل حزب الشعب الجمهوري أولاً بنسبة أصوات بلغت 37.5%، أمام العدالة والتنمية الذي حصل على نسبة 35.6% من أصوات الناخبين، بينما حل حزب الرفاه مجدداً بقيادة فاتح أربكان (نجل رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان) ثالثاً بنسبة 6.1%، ثم حزب مساواة وديمقراطية الشعوب (خليفة حزب الشعوب الديمقراطي “الكردي”) بنسبة 5.7%، ثم الحركة القومية (حليف العدالة والتنمية) خامساً بنسبة 4.98% من الأصوات، فالحزب الجيد سادساً بنسبة 3.76%، بينما لم يستطع أي من الأحزاب الأخرى تجاوز عتبة الـ2%.
وبمحصلة ذلك، فاز حزب الشعب الجمهوري برئاسة بلدية 36 مدينة كبرى ومحافظة؛ منها 15 مدينة كبرى، و21 محافظة، والعدالة والتنمية بـ23 بلدية؛ منها 11 مدينة كبرى، و12 محافظة، وحزب مساواة وديمقراطية الشعوب بـ10 بلديات؛ منها 3 مدن، كبرى و7 محافظات، وحزب الحركة القومية برئاسة بلدية 8 محافظات، وحزب الرفاه مجددًا ببلديتَين؛ إحداهما مدينة كبرى والأخرى محافظة، وحزب الجيد ببلدية محافظة واحدة.
تظهر هذه النتائج مقدار التراجع في حصة الحزب الحاكم من البلديات مقابل تقدم المعارضة، حيث رفع حزب الشعب الجمهوري رصيده في بلديات المدن الكبرى والمحافظات من 20 إلى 36، فيما تراجعت حصة العدالة والتنمية الحاكم من 39 إلى 23، وكذلك حليفه الحركة القومية من 11 إلى 8.
وعلى هامش الحدث الكبير المتعلق بالحزب الحاكم، فاز كل من الرفاه مجددًا والجيد برئاسة بلديات لأول مرة، رفع حزب مساواة وديمقراطية الشعوب رصيده من 8 (كان فاز بها الشعوب الديمقراطي) إلى 10 بلديات.
أكثر من ذلك، فقد حصل حزب الشعب الجمهوري على أغلبية المجلس البلدي لكل من بلديتي أنقرة وإسطنبول اللتين كانتا بحوزة تحالف الجمهور الحاكم في الانتخابات السابقة؛ رغم خسارته رئاسة البلديتين للمعارضة، وفي البلديات الفرعية أو بلديات أحياء المدن الكبرى، رفع الشعب الجمهوري رصيده في أنقرة من 3 إلى 16، مقابل تراجع العدالة والتنمية من 19 إلى 8 من أصل 25 بلدية فرعية، وفي إسطنبول رفع الشعب الجمهوري رصيده من 14 إلى 26 مقابل تراجع العدالة والتنمية من 24 إلى 13 من أصل 39 بلدية فرعية.
ثمة أسباب عديدة تعزى لها هذه النتيجة المفاجأة، لكن ينبغي في البداية الإشارة إلى أن الصدمة تكمن في مقدار التراجع لا في حصوله مبدئياً، ذلك أن حزب العدالة والتنمية في منحى تراجعي فعلاً في السنوات الأخيرة وتحديداً منذ الاستفتاء على النظام الرئاسي في عام 2017م، وقد تراجع فعلاً في الانتخابات المحلية في عام 2019م وخسر فيها بلديات مهمة في مقدمتها إسطنبول وأنقرة.
وأما الاختلاف بين نتائج هذه الانتخابات عن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو 2023م، فمردُّه إلى الاختلاف الجوهري بين الاستحقاقين؛ فالأول يُختار فيه من يحكم البلاد وبالتالي فالخيارات البديلة متناقضة تماماً وقد تغير وجهة البلاد داخلياً وخارجياً بشكل كامل، بينما الأخيرة انتخابات محلية تأثيرها السياسي محدود ويكاد يكون رمزياً متعلقاً برسائل الناخبين، وهو أمر متكرر وليس جديداً في السياسة التركية على أي حال.
حمل صندوق الانتخاب إذاً رسائل احتجاجية على العدالة والتنمية من خلال التصويت العقابي الذي تمثل بمقاطعة نسبة لا بأس بها من الناخبين للتصويت –كان معظمهم من أنصار العدالة والتنمية– فضلاً عن اتجاه نسبة من المحافظين لحزب الرفاه مجدداً المؤسَّس حديثاً.
في مقدمة أسباب هذا التصويت الاحتجاجي أو العقابي الأوضاع الاقتصادية في البلاد، التي ما زالت تعاني من تحديات كبيرة تتعلق بنسبة التضخم وغلاء الأسعار وتراجع قيمة الليرة وغير ذلك مما يلمس حياة المواطن العادي، بما في ذلك شريحة المتقاعدين التي تعدُّ بالملايين، وكانت أبدت عدم رضاها عن مستوى الراتب التقاعدي في البلاد.
بيد أن الاقتصاد ليس العامل الوحيد في هذا الإطار، إذ ثمة تحفظات لدى شرائح داعمة لأردوغان والعدالة والتنمية تتعلق بسياساتها العامة، من قبيل الرؤية والخطاب والممارسة السياسية والتحالفات وتعامل قيادات الحزب مع الجماهير، وهي من قبيل المشكلات التي تعاني منها الأحزاب التي تحكم طويلاً من ترهل وفساد وتراجع مستوى الأداء وغيرها.
كما أن التقييمات أظهرت عدم رضا الناخبين عن اختيارات الحزب لمرشحيه في بعض المدن الكبرى والمحافظات، بعدِّها اختياراً فوقياً تجاوز رغبة الشارع وتنظيم الحزب في تلك المدن، فانعكس ذلك على النتائج.
أخيراً، وعلى غير العادة، كان لأحد ملفات السياسة الخارجية تأثير مباشر على النتيجة، وتحديداً موقف الحكومة من العدوان على غزة الذي ناله الكثير من النقد وتحديداً من شريحة الإسلاميين والمحافظين الذين لهم موقف خاص وعالي السقف من القضية الفلسطينية.
هذه الأسباب وغيرها وردت في تقييم أردوغان نفسه بعد الانتخابات خلال حديثه مع قيادات الحزب، حيث دعا لقراءة رسائل الصندوق جيداً والتفاعل معها إيجاباً، محذراً من إلقاء اللوم على الناخبين بما يمكن أن يورد حزبه مصير أحزاب أخرى اندثرت أو كادت حين فعلت ذلك وغفلت عن أخطائها.
وكان لافتاً أن الرئيس التركي ورئيس العدالة والتنمية حذر من «الجدران» التي تفصل الحزب عن بعض شرائح الشعب، ومن مرض «الكِبْر» الذي يمنع رؤية الأخطاء، وكذلك من «الاستمرار في الذوبان مثل الثلج تحت الشمس» في حال لم يعِ الحزب هذه الرسائل ويعمل على تصويب أخطائه واستعادة ثقة جمهوره.
لا يعني كل ما سبق أن الشعب التركي قد أدار ظهره لأردوغان أو أنه سحب ثقته تماماً ونهائياً من حزب العدالة والتنمية، ولكنها رسالة تحذيرية بالغة الحدّة والوضوح للحزب ورئيسه بضرورة تصحيح ما اعترى الحزب من ترهل وتراجع وضعف والاستماع لصوت الشارع وحاضنة الحزب على وجه التحديد فيما تتحفظ عليه من خطاب وتوجهات سياسية.
سابقاً، ردد الرئيس أردوغان أكثر من مرة أن رسالة الصندوق قد وصلت، وأن الحزب سيعمل بمقتضاها، لكن ما حصل في حينها لم يتجاوز فكرة تغيير بعض الوجوه في الحزب والحكومة، ورغم أن شيئاً من ذلك، تغيير في كوادر الحزب القيادية و/أو تعديل وزاري، متوقع في المدى المنظور، فإن الاكتفاء بهذا القدر قد يشعر الناخب المؤيد للحزب أن التغيير شكلي وظاهري، ولا أثر حقيقياً له على مسيرة الحزب، ما قد يحول «البطاقة الصفراء» التي رفعها في وجه الحزب في الانتخابات المحلية إلى «بطاقة حمراء» في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في عام 2028م.
المطلوب، إذن، تغيير حقيقي وجوهري يمس مجمل/كافة الجوانب التي يتحفظ عليها بعض أنصار الحزب، وهو ما يعني عملية تغيير عملية وطويلة الأمد، والسؤال هنا لا يدور حول ضرورتها، فذلك مما خلصَ إليه أردوغان وقيادة الحزب بعد الأنصار، ولكن حول تفاصيل أخرى مثل الكيفية والوقت وفرص النجاح والأثر، ذلك أن السلبيات المشار لها قد نمت وتعمقت على مدى سنوات طويلة وليس من المتوقع ولا من المنطقي أن تنتهي بكبسة زر كما يقال، بل يقف دون بعضها تحديات كبيرة وحقيقية حتى أمام قائد مثل أردوغان.
ورغم ذلك، فإنه إن توفرت الإرادة السياسية للتغيير فإن الشخص الوحيد القادر على ذلك هو أردوغان نفسه، مع الاعتراف بالصعوبات والتحديات الماثلة، بيد أن البلاد ستكون أمام 4 سنوات كاملة بدون استحقاق انتخابي، ما سيتيح للحزب وقيادته العمل على التغيير المنشود بهدوء ودون ضغط الشارع أو صندوق الانتخابات كما أنها مدة زمنية أكثر من كافية لعلاج المشكلات الاقتصادية في حال نجحت خطة الحكومة الحالية.
فكيف ستكون القراءة النهائية لحزب العدالة والتنمية لأسباب الخسارة في الانتخابات الأخيرة؟ وما الذي سيقرره بخصوص رسائل الصندوق؟ وهل سيكون قادراً على التغيير المطلوب وينجح به ويقنع الشارع التركي به؟ كل ذلك وهو يدرك أن ذلك سيكون أحد أهم العوامل المؤثرة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة التي قد يخوضها الحزب بدون أردوغان لأول مرة؟ أسباب برسم الأشهر المقبلة.