بينما تنشغل معظم الدراسات التي تلتمس البحث عن طرائق النهضة العربية والإسلامية المنشودة باستخلاص تجارب الأمم الناهضة وأسباب النهوض وعوامل دعم ترسيخ قيمه في الأفراد والمجتمعات، فالكثير من تلك الدراسات تنشغل عن العوائق التي قد تقف في طريق تحقيق أحلام النهضة المأمولة والوقوف على الأمراض والأسقام الاجتماعية التي تمثل تحديات كبيرة لأي نهضة محتملة.
بل إن النهضة في حد ذاتها كسياسات تنويرية في مجالات التعليم والصحة والصناعة والتسلح وغيرها ليست بالمهمة المتعذرة بقدر ما يحيط بتلك المشروعات الثورية من عوائق قوية وأمراض اجتماعية تقاوم التجديد وتحارب التغيير وتعمل على تكريس الوضع القائم، وتلك القوى المعوقة تمثل العامل الحاسم في فشل كثير من مشروعات النهضة العربية التي حاولت عبثاً منذ قرنين من الزمان استعادة مكانة العالمين العربي والإسلامي بين الأمم.
وبالنظر إلى مشروعات نهضوية عربية شهيرة في العصر الحديث، نجد بأن كلاً منها قد ارتكز على محاربة واحدة من عوائق النهضة دون غيرها، فتركز جهد الإمام محمد عبده على النهضة بالتعليم الديني والدنيوي، وذهب قاسم أمين لتحرير المرأة والمساواة، بينما عمد عبد الرحمن الكواكبي إلى مقارعة الاستبداد كسبب رئيس لإعاقة كافة جهود نهضة الأمة، وارتكز مشروع محمد بن عبدالوهاب على الإصلاح الديني وإزالة ما لحق بالدين من بدع، وذهبت جهود جمال الدين الأفغاني للوحدة السياسية عبر مشروع الجامعة الإسلامية.
وبتتبع تلك المشروعات وما حاولت النضال ضده من أمراض سياسية واجتماعية وحضارية كامنة في جسد الأمة وعقلها، نجد أن أبرز عوائق تقف في طريق النهضة باتفاق زعماء الإصلاح العرب والمسلمين هي الاستبداد والجهل والفساد.
الاستبداد
ويتضمن الاستبداد كافة أشكال السلطوية سواءً كانت سياسية أو دينية أو فكرية أو قائمة على النوع، فداء الاستبداد متأصل ومتجذر في الأمة بما يجعل حلحلة تلك السلطويات المتراكمة بعضها فوق بعض عائقاً شديد الصلابة في وجه النهضة التي تحتاج ابتداءً إلى الحرية الفكرية من أجل إطلاق النظر في عوامل النهوض، وإطلاق يد العلماء والمتخصصين لحل المشكلات، وترسيخ البنية التحتية المادية والفكرية التي تكفل للأمة استنهاض مجتمعاتها وأقطارها في كافة مناحي الحياة.
ومثل مشروع الكواكبي الفكري المبثوث في ثنايا مؤلفه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» جهداً تقدمياً سباقاً وضع يده على أصل الداء الذي تجذر في جسد العالم الإسلامي وبلاده المختلفة حتى أفسد علمائها وشعوبها ومثقفيها وأرسى دعائم دول تخدم مصالح مجموعة ضيقة من الحكام والمنتفعين من حولهم، وتحارب بالقوة الغاشمة وبغيرها من كافة الطرق أي محاولات لإزاحتها من السلطة وإرساء تغيير حقيقي يكفل التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحضاري للأمة.
الجهل
وبينما يقبع داء الاستبداد في قمة الهرم السياسي ويحول بما يمتلكه من سلطة قاهرة محاولات النهضة عامداً متعمداً لمصالح خاصة، فإن الجهل يستشري في جسد الأمة على صعيد قاعدة الهرم السياسي والاجتماعي، وهو الوجه الآخر للاستبداد في عملة التخلف الحضاري، فبالجهل يحيا الاستبداد ويزدهر وبالاستبداد يتم التجهيل وينتشر.
وتتمثل خطورة الجهل في قدرته على تدجين المجتمع ضد المشروعات النهضوية، فيصبح المجتمع وأفراده أسلحة فتاكة تقف في وجه المشروعات التنويرية وتمنع جهودها في نشر العلم والتعلم والثقافة والتنمية، عبر خوف مسيطر على طبقات واسعة من الجهلاء وأنصاف المتعلمين من تغيير الوضع القائم باعتبارها مغامرات محفوفة بالأخطار، في غياب مهارات عقلية وعلمية أساسية قادرة على التحليل والفهم والتأمل والوقوف على أسباب التأخر ومنفتحة على النقاش الحر وتبادل الخبرات.
ويستشري الجهل عبر قنوات عدة إذ أصبح عالم اليوم بقدر ثرائه المعلوماتي ساحة عريضة لخيارات التجهيل الإعلامي والثقافي والاجتماعي عبر طيف واسع من الأدوات الإعلامية التي تتلاعب بها الأيدي –بقصد أو بدون– من أجل تزييف الوعي وغسل الأدمغة وتسطيح العقول، ومن خلال المناهج التعليمية وتفريغها من مضمونها التثقيفي وأدوات التفكير ومنهجية العلم ومبادئ المنطق، فتتخرج أجيال عاجزة كُلياً عن قراءة الواقع وتحليل أسباب التخلف وفهم أدوات النهوض وتشكيل رؤية حقيقية للخروج من مأزق التخلف الحضاري، بما يجعل الأجيال العربية الواحدة بعد الأخرى تركن إلى التقليد بدلاً من الاجتهاد وتستسيغ النقل بدلاً من إعمال العقل، ويصبح التفكر والتدبر والنظر العقلي والتفلسف جهداً جهيداً لا يدرك أهميته إلا القليل ولا يلتفت إليه إلا نادراً ولا يتمكن من إتقانه ويتحمل مشقته إلا الخاصة.
الفساد
ويتفرد الفساد عن الجهل والاستبداد بأنه ظاهرة تمتد فيما بين سائر طبقات المجتمع الأعلى منها والأدنى، عبر خلق الاستبداد والجهل معاً لشبكات معقدة متراكمة من المنتفعين عديمي الكفاءة العلمية والعقلية، تلك الشبكات تترسخ وتتنامى بمرور الوقت وتتشكل فيما بينها علاقات تنظيمية حيناً وصراعية أحياناً أخرى، عبر تسييد قيم الانتفاع والاحتيال والترقي الطبقي القائم على الربح السريع واستغلال النفوذ والسلطة والسرقة، وكلها أمراض اجتماعية شديدة الخطورة تفسد أخلاق أفراد المجتمع وتدفعهم نحو السقوط في دائرة مفرغة من السعي نحو تحقيق النجاة الشخصية على حساب الآخرين والثراء السريع على حساب مصالح المجتمع.
في تلك الدائرة الفاسدة التي يمثل الاحتيال وعلاقات النفوذ وسيلتها الأهم والوحيدة للترقي الاجتماعي ينزوي العلم وتتراجع مكانة الكفاءة وتهاجر العقول النابغة للهرب من مستنقع الفساد الناخر في جسد المجتمع، مما يفرغ المجتمعات من أهم أركان نهضتها وهي ثروتها البشرية من العلماء والمتخصصين والنوابغ والموهوبين، ويستشري اليأس فيما بين الشرفاء والمخلصين من إمكانية التوصل إلى مكانة حقيقية في مجتمع فاسد فيتراجع الإبداع والاجتهاد وينزوي الاختراع والاكتشاف.
وتُصبح أي محاولة لتغيير الوضع القائم في تلك الحالة مهمة محفوفة بالأخطار ومهددة بطيف واسع من الأعداء المنتفعين من بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وفي ظل غياب إرادة سياسية حرة وانتشار الجهل يتعزز فشل مشروعات النهضة جيلاً بعد جيل دون جدوى.
من هنا، فإن مشروعات النهضة وإن بدت كثيرة ومتنوعة عبر عصور العالم العربي الحديثة والمعاصرة، سواء على المستوى الفكري أو على المستوى الحركي، فإن العراقيل تتمثل في أن تلك المشروعات قد انزوت بفعل العوامل الثلاثة السالفة معاً أو واحد منها على الأقل، فما قدمه المفكرون من رؤى مبثوثة في الكتب قد منع من النشر أو صودر بفعل الاستبداد أو لم يُقرأ بسبب الجهل، أما الحراك السياسي فقد تم التضييق عليه سياسياً عبر قيود مُحكمة من ناحية، ولم يتمكن من الوصول بخطابه السياسي إلى الجمهور المنشود نتيجة الجهل والفساد من ناحية أخرى، وكثير من مشروعات النهضة الفكرية منها والسياسية قد شابها الفساد بشكل أو بآخر خلال التطبيق أو فشلت معرفياً في التوصل إلى رؤية تنظيرية قوية ومتماسكة لشكل النهضة المأمول وكيفية تطبيقه من خلال برامج واضحة وقوية.
وأخيراً، فإن البحث عن النهضة بقدر ما يحتاج إلى جهد تنظيري متعمق ومستنير لعوامل النهوض وأساليب التقدم، لن يتأتى له النجاح من دون التخلص من ثلاثية التخلف الراسخة في أنحاء الأمة، عبر توعية منظمة بقيمة العلم والحرية والعدالة، تنشئة اجتماعية وسياسية ترسخ إعلاء العقل وتتكئ على المنهجية العلمية كعامل أساس للتخلص من دائرة الجهل والفساد.