لقد انتهى منذ زمن طويل مفهوم العبودية بمعناه وممارسته التقليدية من بيع وشراء مباشر للإنسان باستغلال جسده وروحه وحياته لخدمة الآخرين، وظهرت بالمقابل صرعات جديدة من العبودية بعضها مادي ملموس كعصابات اختطاف الأولاد وبيعهم أو بيع أعضاء من جسدهم، والعبودية الجنسية من خلال استغلال جسد المرأة، وهناك العبودية التي جاءت من خلال الاستعمار الغربي النابع من فكر ديني ضال ومتوحش أضيف إليه جملة من المبادئ العلمانية التي تجعل الرجل الأبيض، والأوروبي خاصة، فوق البشر، بل شعب الله المختار حسب ادعاءاتهم.
وهناك صور من العبودية مرتبطة بالرغبات الإنسانية نمت وسيطرت على الإنسان من خلال العولمة والانفتاح الدولي والتجارة الدولية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي، فأضحى لدى العالم عبودية من نوع آخر تربط الإنسان بالانسياق والانجراف نحو منتجات وبضائع وصورة ذهنية يصنعها الغرب من أجل إخضاع شعوب العالم نحو العبودية والاستسلام لجنة الغرب الموعودة وفق الأهداف والمصالح التي يرسمونها.
لقد أثبت الشعب الفلسطيني في غزة وعموم فلسطين قدراً كبيراً من العزة والكرامة من أجل النصر والتمكين والتحرير وطرد المعتدين المحتلين، تلك النفوس من شعب فلسطين أظهرت أمثلة من الارتقاء القيمي بالنفس ورغباتها، فلا عبودية بالتمسك بالحياة تحت ذل الاحتلال، ولا عبودية أو انصياع لمستعمر عنصري مجرم أو داعم له بلا أخلاق ولا قيم، ولا عبودية أو أتباع لبعض الأنظمة العربية التي خانت ربها وشعبها وقضيتها الرئيسة فلسطين، ذلك هو الانعتاق النبيل والكريم للشعب الفلسطيني الذي يضحي بنفسه واستقراره وماله وأمنه من أجل هدف وغاية أسمى؛ ألا وهي تحرير أرض فلسطين والمسجد الأقصى من دنس المحتلين.
ومن صور الانعتاق من العبودية ما شهدناه في الكويت خاصة، وفي العديد من دول العالم من عزوف ومقاطعة شعبية كبيرة وعظيمة الأثر للمنتجات التجارية التي تدعم الكيان المحتل، أو تساهم في حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، فلقد مارست الشعوب الحية درجة عالية من التمسك بالأخلاق والسلوك النبيل من خلال مقاطعتها، ضاربة بذلك عرض الحائط رغباتها الشخصية الضيقة لصالح أهداف وغايات أسمى تصب في دعم القضية الفلسطينية ودعم الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه.
وأي انعتاق لعبودية حب النفس والحياة وتفضيل المصلحة الخاصة أكثر من قيام أطباء كويتيين وعرب وأجانب، ورواد في العمل الخيري من رجال ونساء من دول العالم أجمع يسارعون رغم الأخطار الكبيرة لدخول غزة نصرة ودعم لشعبها المنكوب!
وأي انعتاق مجيد لعبودية النموذج الأمريكي الذي يدعي بأنه حامل راية العدل والتميز والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان من خروج الآلاف من الطلبة الأمريكيين وهيئاتهم التدريسية في الجامعات الأمريكية معترضين على دعم أمريكا لتجاوزات حقوق الإنسان، وصور الإبادة في غزة وعموم فلسطين! تلك شعوب حية وضمائر ارتقت في قيمها وأخلاقها.
والانعتاق من العبودية يعني رفض أي ممارسات أو مواقف تساوي الظالم بالمظلومين، أو تجعل سياسة الأمر الواقع مقبولة بتمكين المحتل الصهيوني من التوسع والتمدد على أرض فلسطين، أو تمكين العدو ومن يعاونه بتحقيق مخططاته الاستعمارية تحت مسمى التطبيع والسلام مع جيرانه العرب، فالعبودية كل العبودية مكافأة الظالم على ظلمه وفساده، بل إن أسمى صور الانعتاق والتحرر من تلك العبودية المخزية الذليلة يكمن بتبني سياسة مقاومة ورفض صور التطبيع والاستسلام المباشر منها وغير المباشر.
وأي انعتاق من عبودية وتبعية القوى الدولية الظالمة قيام دول تصدرتها دولة جنوب أفريقيا باللجوء للمحكمة الدولية كاشفة ومعرّية لجرائم الحرب التي يرتكبها الصهاينة! فتلك دول وشعوب حية تضرب أمثلة رائعة في أهمية محاربة طغاة الاستعباد والعنصرية في الحصر الحديث.
إن غاية العبودية الحقة لله عز وجل تجعل الإنسان يعرض عن عبوديته للبشر، والعبودية الربانية تجعل شعب غزة يقاوم، ويقدم الشهداء والجرحى، ويقبل بغياب الاستقرار تقرباً لله وسعياً للنصر والتحرير، والعبودية لله تدفع الملايين من العرب والمسلمين للبذل والعطاء بإنكار منكر الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، ومقاومة صور الاستعباد الغربي بدعم الكيان الصهيوني المحتل وجرائمه تدفع الملايين في العالم للاحتجاج على الصلف الغربي من منطلق غايات وأخلاق نبيلة.
إن أحداث غزة كشفت عن معدن الإنسان الحر الذي يتمسك بالكرامة ويسعى للانعتاق من العبودية البشرية التي فرضها نظام دولي متوحش يضع مصلحته الخاصة فوق مصالح وكرامة البشر جميعاً.
وأخيراً، يصدح الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله، بلسان الجميع بدعوته للدفاع عن كرامة الإنسان وانعتاقه من عبودية الاحتلال والظلم في فلسطين: «نحن لا نبغي عدواناً، ولا نطلب باطلاً، إننا نطلب الحق، وسنحارب إن لم نعط الحق، نحن نحارب لا بغياً ولا ظلماً، فلا ينصر الله ظالماً، ولكن دفاعاً عن أنفسنا وعن الحق، نحن نحارب دفاعاً عن كرامة الإنسان».