تعد الشورى إحدى أهم ركائز السياسة الشرعية في الإسلام، وقد جاء الأمر بها صريحاً في القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: 159)، ووصف الله بها المؤمنين في قوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، وقد استجاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لهذا الأمر الإلهي، واعتمدوا الشورى كمبدأ أساسي من مبادئ الحياة الإسلامية الخاصة والعامة، وظهر ذلك في صور متعددة، منها:
أولاً: استطلاع رأي عموم الصحابة:
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجمع أصحابه أحياناً، ويستشيرهم في أمر من الأمور العامة، ومن الأمثلة التي تدل على ذلك ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة «أحد» في شهر شوال من العام الثالث للهجرة، حيث علم بخروج المشركين من مكة وقدومهم باتجاه المدينة، فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وأخبرهم الخبر، ثم طلب منهم المشورة، قائلاً: «إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدْعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مُقَامٍ، وَإِنْ هُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِيهَا».
وَكَانَ رَأْيُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ مَعَ رَأْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَرَى رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَلَّا يَخْرَجَ إلَيْهِمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ الْخُرُوجَ، فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّنْ أَكْرَمَ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ «أُحُدٍ» وَغَيْرِهِ، مِمَّنْ كَانَ فَاتَهُ «بَدْرٌ»: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُخْرُجْ بِنَا إلَى أَعْدَائِنَا، لَا يَرَوْنَ أَنَّا جَبُنَّا عَنْهُمْ وَضَعُفْنَا؟ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ لَا تخرج إِلَيْهِم، فو الله مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إلَى عَدُوٍّ لَنَا قَطُّ إلَّا أَصَابَ مِنَّا، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إلَّا أَصَبْنَا مِنْهُ، فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ أَقَامُوا؛ أَقَامُوا بِشَرِّ مَحْبِسٍ وَإِنْ دَخَلُوا قَاتَلَهُمْ الرِّجَالُ فِي وَجْهِهِمْ، وَرَمَاهُمْ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ كَمَا جَاؤوا.
فَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حُبُّ لِقَاءِ الْقَوْمِ، حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ، فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَيْنَ فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ، ثم خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المشركين فِي أَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ(1).
ففي هذا الموقف دلالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استشار جميع أصحابه الموجودين معه آنذاك، كما استشارهم أيضاً في غزوة «الخندق» في شوال من العام الخامس للهجرة النبوية، حين علم أن الأحزاب تجمعوا وتحركوا صوب المدينة المنورة، يريدون القضاء على الدين الإسلامي ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
ولما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الزحف الخطير؛ سارع إلى عقد مجلس استشاري، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات بينهم، اتفقوا على قرار قدمه الصحابي الجليل سلمان الفارسي، قال سلمان: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا- وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك- وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الخطة(2)، فهذه هي الصورة الأولى للشورى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي استطلاع رأي عموم الصحابة.
ثانياً: استطلاع رأي طوائف من الصحابة:
كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً يكتفي في المشورة بطوائف من الصحابة، وليس عموم الصحابة، كما في غزوة «بدر الكبرى»، في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة النبوية الشريفة، حيث علم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن عيراً لقريش تمر بالقرب من المدينة، فخرج مع مجموعة من أصحابه إليها، لكن العير نجت، حيث سلك القوم طريقاً آخر، وعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على العودة إلى المدينة لكن الخبر أتاه أن قريشاً خرجت إلى «بدر»، فَاسْتَشَارَ الرسول صلى الله عليه وسلم النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ وَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ وَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ، لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَدَعَا لَهُ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ»، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، فقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «أَجَلْ»، قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ، وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَكَ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَكَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، قَالَ: فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشَّطَهُ، ثُمَّ قَالَ: «سِيرُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ»(3).
ففي هذا الموقف كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على استطلاع رأي طوائف المجتمع وفصائله المتنوعة، ليبرز لنا صورة من صور الشورى في المجتمع المسلم.
ثالثاً: استطلاع رأي فرقة واحدة من بين الناس:
حيث يستشير من يهمه الأمر فقط، وقد حدث ذلك في غزوة «الخندق»، حين اشتد الحصار على المدينة المنورة، وظل الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر في حيلة لفك هذا الحصار، حتى بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَإِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيِّ، وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ، وأراد أن يعطيهما ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَا بِمَنْ مَعَهُمَا عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ ينفذ ذلك، بَعَثَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمَا، وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ، فَقَالَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمْرًا نُحِبُّهُ فَنَصْنَعُهُ، أَمْ شَيْئًا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ، لَا بُدَّ لَنَا مِنْ الْعَمَلِ بِهِ، أَمْ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لَنَا؟ قَالَ: «بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ، وَاَللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّنِي رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ إلَى أَمْرٍ مَا».
فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى الشِّرْكِ باللَّه وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، لَا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا نَعْرِفُهُ، وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا تَمْرَةً إلَّا قِرًى أَوْ بَيْعًا، أَفَحِينَ أَكْرَمْنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَهَدَانَا لَهُ وَأَعَزَّنَا بِكَ وَبِهِ، نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا! (وَاَللَّهِ) مَا لَنَا بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ، وَاَللَّهِ لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَنْتَ وَذَاكَ»(4).
فقد استشار الرسول صلى الله عليه وسلم طائفة واحدة من الناس، وهم الذين يهمهم الأمر فقط.
رابعاً: استطلاع رأي المختصين:
ويدل عليه ما رواه البخاري عن المسور بن مخرمة أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَامَ حِينَ جَاءَهُ وفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أنْ يَرُدَّ إليهِم أمْوَالَهُمْ وسَبْيَهُمْ، فَقالَ لهمْ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَعِي مَن تَرَوْنَ، وأَحَبُّ الحَديثِ إلَيَّ أصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إمَّا السَّبْيَ، وإمَّا المَالَ، وقدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بكُمْ»، وكانَ أنْظَرَهُمْ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لهمْ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَيْرُ رَادٍّ إليهِم إلَّا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قالوا: فإنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المُسْلِمِينَ، فأثْنَى علَى اللَّهِ بما هو أهْلُهُ، ثُمَّ قالَ: «أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّ إخْوَانَكُمْ قدْ جَاؤُونَا تَائِبِينَ، وإنِّي قدْ رَأَيْتُ أنْ أرُدَّ إليهِم سَبْيَهُمْ، فمَن أحَبَّ مِنكُم أنْ يُطَيِّبَ ذلكَ فَلْيَفْعَلْ، ومَن أحَبَّ مِنكُم أنْ يَكونَ علَى حَظِّهِ حتَّى نُعْطِيَهُ إيَّاهُ مِن أوَّلِ ما يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ»، فَقالَ النَّاسُ: قدْ طَيَّبْنَا ذلكَ يا رَسولَ اللَّهِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّا لا نَدْرِي مَن أذِنَ مِنكُم في ذلكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حتَّى يَرْفَعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أمْرَكُمْ»، فَرَجَعَ النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إلى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأخْبَرُوهُ أنَّهُمْ قدْ طَيَّبُوا وأَذِنُوا، ففي هذا الموقف جعل الرسول صلى الله عليه وسلم المشورة لقادتهم فقط.
خامساً: قبول الاقتراحات من عامة الناس:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتح الباب لمن أراد أن يبدي رأيه أو يشير على الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء دون حرج من ذلك، وهي صورة رائعة من صور الشورى في المجتمع، وقد حدثت في غزوة «بدر الكبرى»، حين نزل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند بئر بدر، فقام الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ وقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: «بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ»، فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ النَّاسِ، فَسَارَ حَتَّى إذَا أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ نَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ، فَمُلِئَ مَاءً، ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ(5).
فهذه صورة للمشورة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي قائمة على قبول المقترحات وتنفيذها، كما يدل عليها أيضاً ما سبق ذكره من موقف حفر الخندق في غزوة الأحزاب، بناءً على مشورة الصحابي الجليل سيدنا سلمان الفارسي.
إن صور تطبيق الشورى في عهد الرسول صلى الله عليه ومسلم متعددة، منها: استطلاع رأي عموم الصحابة، أو طوائف منهم، أو استطلاع رأي فرقة واحدة من بين الناس، أو استطلاع رأي المختصين، أو قبول الاقتراحات من عامة الناس.
_______________________
(1) سيرة ابن هشام (2/ 63).
(2) الرحيق المختوم (ص277).
(3) البداية والنهاية، ابن كثير (5/ 69).
(4) «سيرة ابن هشام ت السقا» (2/ 223).
(5) سيرة ابن هشام (1/ 620).
