اختلطت المفاهيم لدى البعض بين مفهومي العالمية والعولمة خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي والشيوعية وظهور ما يسمى بالنظام العالمي الجديد واحتلال مصطلح «العولمة» بدلاً من النظام العالمي الجديد، وتوضيحاً لتلك المفاهيم نقدم تلك القراءة في كتاب د. محمد عمارة للتعريف بالفرق بين عالمية الإسلام والعولمة التي تنتمي للرأسمالية الغربية وأبعاد تلك العولمة وسبيل العودة لهيمنة عالمية الإسلام.
مفهوم العالمية الإسلامية
تعرف عالمية الإسلام بأنها نزعة إنسانية وتوجه نحو التفاعل بين الحضارات، والتلاقح بين الثقافات، والمقارنة بين الأنساق الفكرية، والتعاون والتساند والتكامل والتعارف بين الأمم والشعوب والدول، ترى العالم منتدى حضارات، بينها مساحات كبيرة من المشترك الإنساني العام، ولكل منها هوية ثقافية تتميز بها ومصالح وطنية وقومية وحضارية واقتصادية وأمنية لا بد من مراعاتها في إطار توازن المصالح، وليس توازن القوى بين هذه الأمم والحضارات، وتميزت به الحضارة الإسلامية منذ نزول القرآن الذي أتى بخطاب موجه للعالمين فيقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء 107)، فكانت هذه الأمة الإسلامية وحضارتها دائمة التحقق حيثما امتدت تعاليم الإسلام وقيمه وثقافته على امتداد الزمان والمكان.
لكن هذه العالمية لا تعني في الرؤية الإسلامية انفراد الحضارة الإسلامية بالعالم، وإلغاءها للآخر الحضاري، بل إنها تعني التفاعل والتدافع والتسابق مع الآخر في تأكيد التعددية الحضارية والتنوع والاختلاف؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
فالمفهوم الإسلامي للعالمية يؤمن أن التفاعل هو الوسط العدل بين العزلة والتبعية.
مفهوم العولمة
وأما مفهوم العولمة فيعرفها د. عمارة بأنها اجتياح غربي مبني على عملية إقصاء حضاري شامل بهيمنة أمريكية، وهي طور جديد على طريق النزعة المركزية الغربية والعالمية بمفهومها الغربي، إنها طور الاجتياح الذي يطمع في صب العالم داخل القالب الغربي على مختلف الصعد والميادين، فهي مرحلة الطوفان الغربي الذي هو في الدعاوى الغربية نهاية التاريخ.
أبعاد العولمة
1- في الاقتصاد:
هي عند صادق العظم: حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها، وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ(2)، وهي عولمة الخلل الفاحش الذي تمثله الليبرالية الرأسمالية المتوحشة بين شمال الأرض وجنوبها الذي بلغ في الظلم الاجتماعي أفقاً غير مسبوق، فأبناء حضارة الشمال الذين بنوا رفاهية مجتمعاتهم الغربية على فائض النهب الاستعماري العالمي، الذين يمثلون اليوم 20% من سكان المعمورة، يملكون ويستهلكون 86% من الإنتاج العالمي، حتى إن 225 فرداً منهم يملكون ما يوازي ملكية 2.5 مليار من أبناء الجنوب، وحدث ولا حرج عن حجم الديون الهائلة التي يدين بها العالم الثالث مما يكبل القرار الشرقي تماماً ويخضعه للعولمة الغربية الظالمة، فلا يوجد إنتاج أو نمو حقيقي وإنما يتوقف الأمر عند الاستهلاك والخراب والتبعية.
2- العولمة السياسية:
وغير البعد الاقتصادي للعولمة، هناك البعد السياسي، الذي يهمش دور المنظمات الدولية لحساب تعظيم الهيمنة العالمية لمؤسسات الدولة الأمريكية، فمجلس الأمن الأمريكي يكاد أن يحل محل مجلس الأمن الدولي، وقضايا وشؤون العالم الإسلامي قد عهد بها إلى «لوبي» يهودي أمريكي، والسيادة الوطنية لحكومات الدولة القطرية والقومية تتآكل لحساب التدخل الأمريكي والأطلنطي، ولحساب تعظيم سيادة العولمة الأمريكية على حساب السيادات الوطنية والقومية، فهي إذاً مشروع هيمنة وتدخل سافر في شؤون الغير أصبح له دعاته ومريدوه بشكل فج ينالون من سيادة الأوطان والدول باسم العولمة.
3- العولمة العسكرية:
والعولمة العسكرية هي التي تفرض كل ألوان وأبعاد العولمة على من تحدثه نفسه بالتمرد أو العصيان، فمن لم تردعه التحذيرات والعقوبات، تردعه الصواريخ والمقاتلات، وإذا كان شاذاً بكل المقاييس أن تأتي الطائرات الأمريكية والبريطانية عبر القارات ومن وراء المحيطات لتضرب شعب العراق ومنشآته بحجة الدفاع عن النفس، فإن هذا الشذوذ يتم تقنينه وعولمته عندما تجتمع دول حلف الأطلنطي في عيده الخمسيني بأمريكا في أبريل 1999م، فهذا الحلف الذي تكون في عام 1949م في ظل النظام العالمي ثنائي القطبية قد نص ميثاقه على أن مهامه خاصة بالدفاع عن أرض الدول المشتركة فيه، لكن العولمة العسكرية قد غيَّرت مهام هذا الحلف وطوتها فجعلتها الدفاع عن المصالح وليس فقط الأرض، فامتدت الذراع الأمريكية للعولمة الغربية من مثل الأصولية الإسلامية، والتطرف، اضطهاد الأقليات المسيحية التي جعلتها العولمة من خصائص الدول العربية والإسلامية دون غيرها من الدول، أصبحت هذه المبررات أبواباً مشروعة للتدخل العسكري العولمي في شؤون الدول المتمردة على بيت الطاعة الأمريكي.
4- عولمة القيم والثقافة:
إذا كانت العولمة العسكرية هي أداة التأييد للهيمنة الغربية الأمريكية، فإن عولمة القيم والثقافة أداة التأبيد لذوبان الحضارات غير الغربية في النموذج الحضاري الغربي، فاحتلال العقل كان دائماً وأبداً السبيل لتأييد احتلال الأرض ونهب الثروة دونما حاجة إلى نفقات القواعد العسكرية وتكاليف الجيوش.
وإن وثيقة برنامج عمل مؤتمر السكان الذي عقد بالقاهرة في سبتمبر 1994م تكفي لتجسيد معنى عولمة القيم الغربية وفرضها على مختلف الأمم والشعوب والدول والحضارات والمعتقدات والثقافات، فالأسرة قيمة من القيم الإسلامية، بل والإنسانية، وعلى صلاحها يبنى صلاح الأمة والاجتماع، والحفاظ عليها فطرة إنسانية فطر الله عليها الفطر السليمة، ولهذه الأسرة مفهوم إسلامي يقيمها على الزواج الشرعي الذي يحقق الاختصاص بين ذكر وأنثى لتضم بعد ذلك البنين والحفدة، وفي ظل علاقات وواجبات وحقوق الأبوة والأمومة والبنوة، وفق منظومة من القيم الإسلامية جعلت وتجعل هذه المؤسسة واحة السكن والسكينة والمودة والرحمة، المحكومة بالميثاق الغليظ، ميثاق الفطرة التي فطر الناس عليها.
لكن وثيقة مؤتمر السكان تسعى لعولمة التحلل والتفكك الأسري الذي نخر وينخر في عظام المجتمعات الغربية التي عزفت عن الزواج واستبدلت «الرفقة» به، التي أصبح 40% من طفولتها تولد خارج الأسر الشرعية، و50% من هؤلاء الأطفال يعيشون خارج الأسر الشرعية؛ أي مع رفيق الأم أو رفيقة الأب، ولا تدع هذه الوثيقة أمر تغيير الهياكل الأسرية للظنون والاجتهادات، وإنما تتحدث عن اقتران لا يقوم على الزواج، وهو ما يشيع في العلاقات المحرمة دينياً بين رجلين أو امرأتين، بل يتجاوز إباحة ذلك إلى ترتيب الحقوق لهذه الأنواع من الأسر فتقول: وينبغي القضاء على أشكال التمييز في السياسات المتعلقة بالزواج وأشكال الاقتران الأخرى، فنحن أمام عولمة مفهوم الأسرة لا يقف بها عند حدود الزواج والأزواج، بل يدخل فيها كل الأفراد الناشطين جنسياً ومن كل الأعمار، وهو مفهوم غربي أصبح متعارفاً عليه في الغرب.
5- العولمة الدينية:
وتأتي العولمة الدينية بمحاولات تنصير المسلمين طموحاً إلى إلغاء أمتنا وحضارتنا وطي صفحة الإسلام من سجل الوجود، وإذا كان الوعد الإلهي قد جعل هذا الهدف مستحيلاً؛ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، لكن يجب أن نفرق بين حفظ الدين، وإقامة الدين، فالله سبحانه وتعالى قد وعد بحفظ القرآن، لكن إقامة الدين هي تكليفنا نحن ومهمتنا نحن، وهذا هو الذي يتعرض لامتحان العولمة على جبهة التنصير، وفي هذا يقول مسؤول المجلس الفاتيكاني للثقافة الكاردينال بول بوبار، في حديثه لصحيفة «لو فيجارو» الفرنسية: إن الإسلام يشكل تحدياً بالنسبة لأوروبا وللغرب عموماً، وإن التحدي الذي يشكله الإسلام يكمن في أنه دين وثقافة ومجتمع، وأسلوب حياة وتفكير وتصرف، في حين أن المسيحيين في أوروبا يميلون إلى تهميش الكنيسة أمام المجتمع، ويتناسون الصيام الذي يفرضه عليهم دينهم، وفي الوقت نفسه ينبهرون بصيام المسلمين في شهر رمضان، وفي التخطيط لاختراق الإسلام وثقافته بالاعتماد المتبادل مع الكنائس المحلية ومن خلال العمالة المدنية الأجنبية، تعلن البروتستانتية بلا أخلاق أن صناعة الكوارث في العالم الإسلامي هي السبيل إلى تحويل المسلمين عن الإسلام.
الطريق لاستعادة عالمية الإسلام
إن شراسة التحديات لا تعني أن الصورة قاتمة، ولا أننا أمام طريق مسدود، ونقطة البداية في أخطار العولمة ومواجهتها والتعامل معها أن تعي قوى اليقظة والأصالة الوطنية والقومية والإسلامية في عالم الإسلام حقائق الموقف، دونما تهوين أو تهويل، وأن تحدد نقاط قوتها، والفرص المتاحة أمامها في مواجهة هذه التحديات؛ أي أن تعي حقائق وقوى وتضاريس الموقف الداخلي والخارجي على السواء، فمشكلتنا ليست مع الإنسان الغربي، ولا العلم الغربي، وإنما مع المشروع الغربي الأمريكي الفاسد.
إن علة المعنيين في العالم الإسلامي استخدام تقنيات الحداثة وتحويلها لفرص للتواصل مع الآخر والتعريف بالمشروع الحضاري العالمي للإسلام كفرصة لإصلاح مسار البشرية وإنقاذ الإنسان عموماً ومنه الغربي كضحية من ضحايا الفكر الرأسمالي الغربي الذي غيب عمداً عن الحقيقة الكونية، وكما أتى الإسلام أولاً لتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، فإنه هو الهدف الدائم له، وتلك هي مهمة المسلم على مر العصور وإلى قيام الساعة.
______________________
(1) في مفهوم العولمة لسيد ياسين.
(*) مفكر ومؤلف إسلامي مصري؛ عرف تحولات فكرية نقلته من الاتجاه الماركسي إلى المعسكر الإسلامي، اشتهر بكونه من الإسلاميين المستقلين الذين دافعوا عن رسالة الإسلام وأمته وقضاياها المعاصرة، وزادت مؤلفاته وأبحاثه على مائتي مؤلف.