في عام 2002م صدر قانون أمريكي اسمه «قانون حماية أعضاء الخدمة الأمريكية»، ويعرف إعلامياً باسم «قانون غزو لاهاي»، يمنح الرئيس سلطة استخدام جميع الوسائل اللازمة للإفراج عن أي موظفين أمريكيين أو من حلفاء أمريكا يتم احتجازهم أو سجنهم من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
القانون وضعه نواب الكونجرس في نفس عام بدء تدشين عمل المحكمة الجنائية 2002م، بسبب مخاوف من أن يتم محاكمة جنود ومسؤولين عسكريين أمريكيين أمام هذه المحكمة بسبب جرائم حرب ارتكبت في العراق وأفغانستان وغيرها.
القانون يسمح باتخاذ أي إجراءات ولو كانت الغزو العسكري لمقر المحكمة في هولندا (لاهاي) حال قامت بمحاكمة أي مسؤول سياسي أو عسكري أمريكي، قدم إليها!
حين قرر مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية مطالبة قضاة المحكمة بإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، كان لافتاً رفع نواب أمريكيين مدافعين عن «إسرائيل» الراية الحمراء للمحكمة، محذرين إياها من تطبيق هذا القانون عليها، الذي يمنح الرئيس الأمريكي سلطة تحدي المحكمة بشكل مباشر.
وكتب 12 من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي في رسالة تحذير إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان يقولون: «لقد أظهرت بلادنا في قانون حماية أفراد الخدمة الأمريكية المدى الذي سنذهب إليه لحماية تلك السيادة»، بحسب موقع «ميدل إيست آي» البريطاني، في 27 مايو 2024م.
وأضافوا: إذا أصدرتم مذكرة اعتقال للقيادة «الإسرائيلية»، فسنفسر ذلك ليس فقط على أنه تهديد لسيادة «إسرائيل»، بل لسيادة الولايات المتحدة، حسبما ينص قانون حماية أفراد الخدمة الأمريكية، الذي سنذهب إليه لحماية تلك السيادة».
وكشف تقرير لموقع «ميدل إيست مونيتور» البريطاني، في 23 مايو 2024م، أنه يحق للرئيس الأمريكي غزو لاهاي إذا احتجزت المحكمة الجنائية الدولية أي «إسرائيلي» بموجب هذا القانون، وهدد عضو الكونغرس الجمهوري المؤيد لـ«إسرائيل» بريان ماست قضاة المحكمة حينما قال: «أمريكا لا تعترف بالمحكمة الجنائية الدولية، لكن المحكمة بالتأكيد ستعرف ماذا سيحدث عندما تستهدف حلفاءنا».
قصة غزو لاهاي
في نفس عام تدشين الجنائية الدولية، ناقش نواب الكونجرس مسألة تعريض أفراد القوات المسلحة للولايات المتحدة لخطر الملاحقة الجنائية الدولية، وأكدوا أن «نظام روما الأساسي» (المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية) يخلق خطرًا يتمثل في احتمال محاكمة الرئيس وغيره من كبار المسؤولين المنتخبين والمعينين في حكومة الولايات المتحدة من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وأن كبار المسؤولين في الولايات المتحدة قد يتعرضون لخطر الملاحقة الجنائية بسبب قرارات الأمن القومي (قرارات الغزو الأمريكية) التي تنطوي على مسائل مثل الرد على أعمال الإرهاب، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل وردع العدوان.
لذا صدر قانون تضمين قانون حماية أعضاء الخدمة الأمريكية (Aspa)، أُطلق عليه بشكل غير رسمي «قانون غزو لاهاي» في عام 2002م بعد أن وقع عليه الرئيس الأمريكي جورج بوش ليصبح قانوناً، رداً على هجمات 11 سبتمبر 2001م.
هذا يفسر سبب تهديدات أمريكا ونوابها لأعضاء المحكمة الجنائية الدولية باستهدافهم بعقوبات وتحذيرهم من أن المحكمة لا يمكن أن تحاكم نتنياهو باعتباره «حليفاً»، وتحذير النواب من أن ذلك قد يتبعه محاكمة مسؤولين أمريكيين، حيث قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن، أمام لجنة في الكونجرس: إنه ملتزم بمعاقبة المحكمة الجنائية الدولية على «القرار الخاطئ للغاية» لمجرد النظر في مسألة توجيه الاتهام لمسؤولين «إسرائيليين».
وأعرب الرئيس الأمريكي عن غضبه في المحكمة الجنائية الدولية إزاء جرأة كريم خان على المطالبة بمحاسبة حلفاء «إسرائيليين»، مشككًا ليس فقط في حكمه وراء طلب أوامر الاعتقال، وسبب الغضب والقلق الأمريكي هو أن واشنطن قد تكون الهدف التالي للمحكمة بعد إدانة قادة دولة الاحتلال، حسبما يقول ريتشارد غولدبرغ، الباحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، والمسؤول السابق في مجلس الأمن القومي، الذي حذر إدارة بايدن من خطورة خطوة المحكمة ضد قادة «إسرائيل».
وقد حصل هذا القانون على اسمه من المادة (2008) من قانون حماية أعضاء الخدمة العسكرية الأمريكية، التي تسمح للرئيس الأمريكي باستخدام جميع الوسائل الضرورية والمناسبة لإطلاق سراح أفراد الجيش الأمريكي والأشخاص المتحالفين المشمولين، ويعني مصطلح «الأشخاص المتحالفين المشمولين» الأفراد العسكريين والمسؤولين المنتخبين أو المعينين وغيرهم من الأشخاص العاملين أو العاملين بالنيابة عن حكومة دولة عضو في «الناتو»، أو حليف رئيس من خارج «الناتو» (بما في ذلك أستراليا ومصر و«إسرائيل» واليابان) والأردن والأرجنتين وجمهورية كوريا ونيوزيلندا، كما يقول القانون.
وقد أدى هذا التفويض الذي منحه القانون للرئيس الأمريكي إلى تسمية القانون بـ«قانون غزو لاهاي»؛ لأنه يسمح للرئيس بإصدار أمر بعمل عسكري أمريكي، مثل غزو هولندا، حيث تقع لاهاي، لحماية المسؤولين والعسكريين الأمريكيين من محاكمتهم أو إنقاذهم من الحجز حال اعتقال أي منهم.
وعندما تم إقرار قانون غزو لاهاي، قالت «هيومن رايتس ووتش»: إن لغة القانون تشير ضمناً إلى أن الرئيس الأمريكي يتمتع بسلطات واسعة لمحاربة المحكمة الدولية؛ ما يعني إلغاء العدالة الدولية لصالح أمريكا وحلفائها، وقالت: إن القانون الجديد يجيز استخدام القوة العسكرية لتحرير أي أمريكي أو مواطن من دولة حليفة للولايات المتحدة محتجز لدى المحكمة التي يقع مقرها في لاهاي.
لكن إدارة بايدن لم تهدد بـ«قانون غزو لاهاي» بشكل مباشر في إدانتها لقرار مدعي عام المحكمة إصدار مذكرات توقيف بحق نتنياهو، وغالانت، وقال بايدن في بيان أصدره البيت الأبيض رداً على الدعوة لإصدار أوامر اعتقال: سنقف دائماً إلى جانب «إسرائيل» ضد التهديدات لأمنها.
كما دعا رئيس مجلس النواب الأمريكي الجمهوري مايك جونسون إلى فرض عقوبات على «الجنائية الدولية»؛ بسبب مزاعمها الشنيعة ضد الاحتلال «الإسرائيلي»! كما أعرب المشرعون المؤيدون لـ«إسرائيل» في كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري عن دعمهم لعقاب «الجنائية الدولية».
ازدواجية المعايير!
الولايات المتحدة ليست عضواً في المحكمة، لكنها أيدت محاكمات سابقة، بما في ذلك قرار المحكمة، العام الماضي، بإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب الحرب في أوكرانيا.
المفارقة هنا أن الولايات المتحدة والغرب عموماً يشيدون بالمحاكم الدولية حين تصدر أحكاماً على هواهم، لكن حين تعاقبهم أو تعاقب حلفاءهم يهددونها ولا يعترفون بسلطانها! وكمثال، هدد السيناتور الأمريكي ليندسي غراهام بفرض عقوبات على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان ومسؤولين آخرين في المحكمة بسبب اتهامهم «إسرائيل» بالعدوان على غزة، بينما نفس هذا النائب أشاد بقرار الجنائية الدولية تحويل الرئيس الروسي بوتين للجنائية الدولية، ودعا إدارة بايدن للوقف وراء المحكمة ودعم قضيتها ضد الرئيس الروسي بوتين بتهمة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا!
وقد أشادوا بما فعلته «الجنائية الدولية» مع روسيا، وطالبوا بايدن بمساندتها، برغم أن «قانون غزو لاهاي» يحد الحكومات الفيدرالية وحكومات الولايات والحكومات المحلية الأمريكية من العمل مع المحكمة الجنائية الدولية، كما يحد من معلومات الأمن القومي وإنفاذ القانون التي يمكن للولايات المتحدة مشاركتها مع المحكمة الجنائية الدولية وحتى الدول الموقعة على المحكمة التي يمكن استخدامها لتسهيل تحقيقاتها والقبض على المشتبه بهم.
ويحظر القانون أيضاً تقديم المساعدات العسكرية الأمريكية للدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية، كما يقيد القانون مشاركة الولايات المتحدة في مهام حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة ما لم تحصل الولايات المتحدة على حصانة من الملاحقة القضائية لجنودها.
ومع ذلك، يُسمح باستثناءات للمساعدة لأعضاء «الناتو»، والحلفاء الرئيسين من خارج «الناتو»، وتايوان، والدول التي دخلت في «اتفاقيات المادة 98»، التي وافقت على عدم تسليم المواطنين الأمريكيين إلى المحكمة الجنائية الدولية.
تهديد قضاة المحكمة!
كشف المدعي العام للمحكمة لجنائية الدولية في تعقيبه على التهديدات الأمريكية أن قادة منتخبين تحدثوا معه بشكل صريح بشأن سعيه لإصدار مذكرات اعتقال بحق قادة «إسرائيليين» إثر حرب غزة، مضيفاً أن زعيماً بارزاً قال له: إن المحكمة أنشئت لـ«أفريقيا وقادة مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين».
وسبق أن فرضت واشنطن في عهد ترمب، في يونيو 2020م، عقوبات على المدعية العامة السابقة فاتو بنسودة وموظفين آخرين بالمحكمة، شملت تجميد أصولهم وحظر السفر عليهم، بسبب التحقيقات في جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات التحالف الغربي في أفغانستان وقوات الاحتلال «الإسرائيلية» في فلسطين.
وقبل ذلك توعد وزير الخارجية الأمريكي جورج بومبيو بـ«عواقب وخيمة» إذا واصلت المحكمة الجنائية الدولية مسارها الحالي؛ أي إذا مضت المحكمة قدماً في التحقيق في القضية الفلسطينية، وذلك في 15 مايو 2020م.
ورُفعت هذه العقوبات في أبريل 2021م في علامة على تحسن العلاقة بين واشنطن والمحكمة الجنائية الدولية
وأكدت إدارة الرئيس الأمريكي بايدن أنها تعارض فرض عقوبات يسعى الجمهوريون في الكونغرس لفرضها على المحكمة الجنائية الدولية، رداً على طلب المدعي العام إصدار أوامر اعتقال ضد رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت.
وأوضح المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي، في مؤتمر صحفي، أن العقوبات ليست الحل الصحيح للتعامل مع أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، مشدداً على أن إدارة الرئيس الديمقراطي تعارض هذا النهج.
لكن وزير الخارجية أنتوني بلينكن قال، في تصريح أدلى به لدى إعلان القرار: لا نزال نختلف بشدة مع إجراءات المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بالوضعين الأفغاني والفلسطيني، ونعترض على جهود المحكمة الجنائية الدولية لتأكيد الولاية القضائية على الولايات المتحدة و«إسرائيل»، وهما ليستا عضوتين في المحكمة.
ويرى محللون أن هذا التحسن لا يرجع فقط بسبب تولي إدارة أمريكية ديمقراطية للسلطة، ولكن نتيجة أيضاً محاولة كريم خان إرضاء الأمريكيين سواء بسرعة تحركه اللافتة في حرب أوكرانيا أو تباطؤه فيما يتعلق بفلسطين، سواء في الحرب الحالية أو الحروب السابقة.
وكذلك عدم تحقيقه في جرائم الجنود الأمريكيين بأفغانستان، في اتهامات بجرائم حرب واكتفائه بمحاكمة «طالبان» التي تدافع عن بلادها ضد الاحتلال!