إن الميتة التي ماتها إسماعيل هنية ليست كأي ميتة، وإن الشهيد هنية ليس كأي شهيد، وإن تجاوب العالم مع هذا الحدث ليس كأي تجاوب، وإن جنازته وتشييعه -حضورًا وتغطيةً وآثارًا- ليست كأي جنازة!
مشهد كله جلال، وكله جمال، وكله عظة وعبرة، وكله تمايز بين فريقين وفسطاطين يتمايزان مع الزمن ومع الأحداث؛ فسطاط الكفر، وفسطاط الإيمان، ومشهد كله «حضور»، وهذا الحضور تعدد وتنوع في مشاهد عدة:
أول مشاهد هذا الحضور وجوانبه، هو أن هذا القائد الشهيد عاش حياةً كلُّها حضور وتأثير، وكلها تضحيات وعطاء، وكلها بذل وجهاد، عاش لفكرة، وعاش لقضية، فكان لقاء ذلك أن تكون حياته لها حضورها، وشهادته لها حضورها وامتداداتها، وهذا ما يؤكده كلام أخيه الشهيد السابق له على الطريق الأستاذ سيد قطب في رسالته «أفراح الروح»: «عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود، أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية، وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض!».
والمشهد الثاني: هو أنه عاش في مخيم الشاطئ حاضرًا آلام الناس ومشاركًا آمالهم، يقاسمهم الحصار وآثاره، ويحضر معهم الأفراح والأتراح، ثم خرج من غزة؛ ليترأس حركة من أشرف الحركات التي عرفها التاريخ الحديث، ويقود المسيرة في هذا الوقت العصيب، وكانت خاتمته في الدنيا أن يدفن في مدافن الإمام المؤسس في حي لوسيل بالدوحة!
القائد الشهيد عاش حياة كلها حضور وتأثير وتضحيات لفكرة وقضية
والمشهد الثالث: هو أن قيادته للحركة جعلت لها حضوراً، وقوة وبأسًا، وقد رأينا كيف كانت معركة «سيف القدس» فتحًا للحركة فرضت بآثارها نفسها، وقوتها، وحضورها حتى على مستوى الأنظمة الرسمية في الجزائر وموريتانيا وغيرهما، ثم قاد السفينة في وقت حدث فيه تلاسن كبير وواسع داخل الحركة وخارجها بشأن العلاقة مع إيران، ثم قاد الحركة مع «طوفان الأقصى»، وكان رأس التفاوض والتواصل والاتصال محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، وأبدى -هو وإخوانه في قيادة الحركة- مرونة كبيرة وتجاوبًا ملحوظًا في غير تفريط بثوابت القضية، وعانوا ما عانوا ليلاً ونهاراً (فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146).
والمشهد الرابع: هو مشهد الثبات والصبر والرضا والاحتساب الذي أبداه شهيدنا أمام استشهاد أولاده وأحفاده وذوي أرحامه، فحُقَّ فيه قول الله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة)، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ولدٌ لعبدٍ قال اللهُ عزَّ وجلَّ لملائكتِه قبضتم ولدَ عبدي، فيقولون: نعم، فيقولُ: قبضتم ثمرةَ فؤادِه، فيقولون: نعم، فيقولُ: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمَدك واسترجع، فيقولُ: ابنُوا لعبدي بيتًا في الجنَّةِ وسمُّوه بيتَ الحمدِ» (أخرجه الترمذي في سننه (1021)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 123)، وإسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما).
والمشهد الخامس: هو مشهد الشهادة؛ حيث لقي الله تعالى مجاهدًا من أجل قضيته، على يد أعداء هذه الأمة، وما أبعد الفرق بين موت الإنسان ميتة عادية على فراش المرض أو في حادث سير، أو بجائحة من الجوائح، أو مرض من الأمراض، أو ميتة فجائية دون مقدمات، وبين أن تكون ميتته على يد أعداء هذه الأمة! وقد قيل: «إذا أردت أن تعرف أهل الحق، فانظر إلى أين تتجه سهام العدو».
والمشهد السادس: هو هذا الحضور الكبير بل الأكبر في عصرنا، الذي صاحَب الخبر وتلاه، سواء في نشره، أو التعليق عليه، أو التحليلات التي نشرت، أو القصائد التي كُتبت، أو المقالات التي دُبِّجتْ، أو النشرات الإخبارية والتغطيات التي بُثَّت، أو الإذاعات التي تحدثت.. لقد شُغلت الدنيا كلها والعالمُ كله بهذا الحدث الجلل!
والمشهد السابع: هو هذا الدعاء، والرجاء، والبكاء الذي رأيناه في وجوه عموم المسلمين وبأصواتهم، في غزة، وفي الشعوب العربية الأصيلة المفارقة لحكامها، وعموم المسلمين في كل مكان، بل أعداد غفيرة من غير المسلمين؛ نخبة وعواماً، ممن نعَوْا هنية، وأبدوا تعاطفهم وتضامنهم، وأنزلوا سخطهم على أعداء الأمة والملة.
والمشهد الثامن: من المشاهد الحضارية لاستشهاد هذا القائد البطل، هو هذه الصلوات عليه؛ صلاة الجنازة في الدوحة التي لم نر لها مثيلاً قبل عقود، وصلوات الغائب في أنحاء العالم الإسلامي، ولو وجد كثير من غير المسلمين سبيلاً لصلاة الغائب لصلوا عليه.
الدماء الزكية للقائد هنية جعلت القضية حية وحاضرة وقوية وبارزة
والمشهد التاسع: هو الغياب الحاضر لكثير من الدول العربية والإسلامية، التي لم تُصدر بيانًا لنعي هذا القائد، رغم أنه كان رئيسًا للوزراء، ولا حضرت جنازته ولا عزاءه، ومصر التي كانت تستقبله للمفاوضات التي هي جارة له أصدرت خارجيتها بيانًا استنكفت أن تذكر فيه اسمه، كما أن هناك دولاً وقفت وقفاتٍ مشرفةً، وناصرت وحضرت، فكان لها الحضور الحالي، والذي سيذكره التاريخ في المستقبل: تركيا نكست الأعلام وأقامت صلاة الغائب في كل مساجدها، وأمير قطر والأمير الوالد حضرا الجنازة في الدوحة، وهناك من تجاهل الحدث كله، ومن لم يجد في نفسه الجرأة أن يذكر اسم الشهيد، فلا يعرف قدرَ الرجالِ إلا الرجالُ، ونقول للمتجاهلين والمتخاذلين ما قال الفرزدق:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرمُ
وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ
سَهْلُ الخَلِيقَةِ، لا تُخشى بَوَادِرُهُ يَزِينُهُ اثنانِ: حُسنُ الخَلقِ وَالشّيمُ
والمشهد العاشر: هو ذلك الحضور على مستويين؛ مستوى الصهاينة ومجلس حربهم، والرعب الذي يتملكهم من التهديدات الإيرانية وأذرعها، ومن المقاومة وفصائلها؛ فحسبهم هذا الرعب فقط؛ فكيف لو تحول إلى عمل، وصارت التهديدات أفعالاً على الأرض؟! إن هذه الدماء الزكية ستختصر الطريق وتقرب الزمان بإذن الله تعالى.
والمستوى الثاني هو مستوى قضية فلسطين وغزة و«الأقصى» والقدس والأسرى، الذي أصبح في وجدان كل مسلم، بل كل إنسان حر؛ فالدماء الزكية للقائد إسماعيل الذي غادرنا وهو ثابت على شعاره: «لن نعترف بإسرائيل»، جعلت القضية حية وحاضرة وقوية وبارزة، وأعادت للمشهد ألقه وحضوره كما لم يكن من قبل.
وحسبنا أن نختم بكلمة للشهيد سيد قطب الذي قالها في تفسيره لسورة «غافر»، يقول رحمه الله تعالى، وألحق به أخاه هنية في الفردوس الأعلى: «وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده، وما كان يملك أن يُودِعَ القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزاً محركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال».
تلك عشرة كاملة من المشاهد الحضارية التي أحْضَرتْها هذه الدماءُ الزكية، وهذا الحدثُ الكبير، وهذا التفاعل غير المسبوق، وهذه المعاني السامية؛ فالشهادة حضور، والحضور شهادة، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، ولا نامت أعين الجبناء!