حينما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم أصاب الصحابة الكثير من الألم والحزن، حتى إن عمر بن الخطاب أخذ بالبكاء، وما عادت قدماه تستطيع حمله! نعم ذلك كان حال عمر المعروف بشدته وصلابته وقوته، فلا يعيب الرجال البكاء، فهم بشر خلقوا من لحم ودم.
الله حي لا يموت
في هذه اللحظة كان لا بد من الحسم والحزم، فحال الصحابة كان مؤلماً، ومنهم من لم يستطع أن يصدق بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات؛ الأمر الذي تطلب من صاحب القلب اللين أن يكون حازماً شديداً حينما دخل أبو بكر على جثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبَّل جبهته وقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً.
وقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت.
وما هي إلا فترة ليست بالطويلة وبايع المسلمون أبا بكر الصديق بالخلافة، ليدير أمور المسلمين.
رغم الحب الكبير للرسول صلى الله عليه وسلم في قلوب الصحابة، لكن الأمر يحتاج الحسم والسرعة في اتخاذ القرار خاصة أنهم عرفوا الهدف من خلقهم وتعلموا من رسولنا الكريم أن نبذل كل ما نملك من أجل الإسلام العظيم.
الدعوة لم تمت
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن الإسلام والدعوة له لم تمت؛ بل أخذ الإسلام ينتشر في بقاع العالم، فالله تعالى تكفل بذلك وسُنة رسوله صلى الله عليه وسل باقية فينا فهي من عقيدة المسلم الصحيحة.
اليوم في غزة؛ بل في فلسطين؛ بل في كل دول العالم من الشرفاء الذين يحملون راية الإسلام والجهاد شعرنا بالألم، شعرنا بوجع الفاجعة؛ فالأمر كبير، حيث إن هناك مجازر في غزة وشهداء في الضفة وشروطاً متوالية جديدة غير منطقية يفرضها الاحتلال لقبوله صفقة لوقف إطلاق النار.
بعد 300 يوم من المجازر والإبادة والتجويع وقلة العتاد والمال وحتى الماء تأتي فاجعة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية (أبي العبد).
هذا الاغتيال كان له أثر كبير في قلب غزة، فقد تم اغتيال القيادة، والاحتلال رغم ذلك ما زال متواصلاً في مجازره.
«أبو العبد»، كنيته التي يحبها، الرجل الشجاع الذي أعلنها مراراً وتكراراً بعدم الاعتراف بـ«إسرائيل» لم يقلها مجرد كلمة؛ بل ترجمها على أرض الواقع من خلال انخراطه في المقاومة التي قدمت وما زالت تقدم.
هي المقاومة ذاتها التي تقدم أرواحها في سبيل الله نصرة للإسلام والمسلمين.
عقيدة ودين
«أبو العبد» وأمثاله من القادة الشرفاء كانوا يعلمون أن مناصبهم ليست تشريفاً؛ بل تكليفاً، وليس أي تكليف!
هنية الذي اتسم بتواضعه وسلامه على الصغير والكبير وبساطة حياته، رغم تقلده في فترة من الفترات منصب رئيس الوزراء للحكومة الفلسطينية، ومع ذلك ما شعرنا بتغير الحال عليه ولا حتى عائلته ولا حتى مسكنه، رغم أنه كان بإمكانه أن يعيش هو وعائلته حياة الرفاهية في قصور.
«أبو العبد» عاش سنوات الاحتلال والحصار والحروب في غزة وسفره في السنوات الأخيرة القليلة إلى دولة قطر الشقيقة ما كان إلا لطبيعة منصبه في الحركة، التي كانت تتطلب ذلك.
له شعبية كبيرة يحبه الصغير والكبير، فكان متواضعاً في تعامله، وشدته وصلابته في مواجهة الاحتلال.
كان يعلم أن الأمر كبير والمسؤولية كبيرة خاصة حينما يتكلم عن القضية الفلسطينية، فهي ليست مجرد أرض وطين؛ بل عقيدة ودين، فهي أرض القداسة والمباركة.
فهو يدرك ثقل الأمانة والمسؤولية التي لها أثمان، وكان مستعداً لأن يقدم هذا الثمن، وقدمه بالفعل، نحتسبه شهيداً ولا نزكي على الله أحداً، في سبيل الله تعالى وفي سبيل فلسطين وفي سبيل كرامة الأمة.
الراية تتوارث
فحينما يرتقي القائد فهو مثل السنبلة ستملأ الوادي سنابل، فمن قبله ارتقى الشيخ أحمد ياسين، ود. عبد العزيز الرنتيسي، وم. إسماعيل أبو شنب.. وغيرهم الكثير.
هل سقطت الراية؟ هل توقفت المقاومة؟ لا بالعكس، بل زادت قوة وتخطيطاً وتطورت في الأداء، و«طوفان الأقصى» دليل واضح على ذلك.
فحينما يرتقي قائد يأتي من بعده أجيال كثيرة تستلم الراية من جيل إلى جيل، فكل واحد منهم له مهمة يسلم بعده لمن يكمل معركة التحرير ليس لغزة فحسب؛ بل لتحرير المسجد الأقصى ولتحرير فلسطين.
دائماً كان يردد «أبو العبد»: لن تسقط القلاع، ولن تخترق الحصون، ولن تسحب منا المواقف، وبالفعل كان لك تحقيق ذلك، فما سقطت التمسك بالقلاع؛ أي بالثوابت الإسلامية والوطنية، ولن تهزم مقاومة ترفع راية «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
ورغم الوجع والمجازر في غزة، فإن لها العزة في نصر الإسلام والمسلمين، ورضينا بهذا الشرف الكبير حتى لا يستبدلنا، حيث يقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: 54).
ونقول كما قال شيخينا د. زياد إبراهيم في رثاء القائد المجاهد أبي العبد:
ظنوا اغتيالك فرصة لنشر اليأس وإنهاء القضية
وما دروا أن الدماء تروي الجذور كما المياه العذبة النقية
وأن اغتيال قادتنا يزيد حركتنا تعملقاً ويجعلها القوية
فلا اغتيال قائدها ولا أفرادها يثني عزائم جندها وما سار عليه قائدها هنية
هذي مسيرة جندنا المغوار ترخص لها دماء طاهرة زكية
تضحي في سبيل الله بالنفس والنفيس وبكل دنيانا الدنية