كيف يستعيد العالم المعاصر إنسانيته المفقودة؟ وكيف يستعيد المعرفة الإلهية الأولى التي تلقاها في السماء؟ وكيف تبعث المساواة والكرامة بين أفراده –من جديد- باعتبارهم جميعًا خلق الله وعياله؟ الإجابة: أنني أعتقد تمام الاعتقاد أن هذا لا يكون إلا عن طريق تعرف العالم على رسالة الله الخالدة في الأرض، رسالة القرآن الكريم، هذه الرسالة الوحيدة الكفيلة –حال الاتصال الحقيقي بها- أن تعيد للإنسان كل ما فقده في ظل الحضارة الغربية الأمريكية المعاصرة، التي يمكن وصفها بأنها أكثر الحضارات عداوة للإنسان، التي تفوقت على حضارات تبع، وفرعون، وإرم في انتهاك حق الإنسان في الإنسانية والحياة والحرية والكرامة.
حضارة معادية الإنسان
قامت الحضارة الحديثة على ثلاث ركائز أساسية ممهدة للعداء الإنساني وتعزيز النفس الأمارة بالسوء والنزاعات بين البشر، هذه الركائز هي: العنصرية التي مجدت فيها الرجل الأبيض على حساب باقي البشر، والداروينية التي أسست لمبدأ الانتخاب أو البقاء للأقوى، فالكون لا يصلح للجميع على اختلاف قدراتهم واستعداداتهم، والصراع كحالة عامة للإنسان الفرد والمجتمعات والعلاقات الدولية وذلك حتى تتمكن من توفير غطاء للمشروع الاستعماري الذي قامت عليه نهضتها في العصر الحديث، وما زال مستمرًا بنفس هذه المعالم حتى العقد الثالث للقرن الحادي والعشرين.
وكان من نتائج هذا الإطار الفكري الذي حدَّ حركة الحضارة الغربية في نشأتها الحديثة أن اتخذت الاستعمار طريقًا، ونهب ثروات العالم منهجًا وخارطة للعمل، والعدوان على الشعوب الضعيفة -الملونة- وتكريس الهيمنة السياسية والاحتكار الاقتصادي تخطيطًا محكمًا، ثم تعلن هذه الحضارة أن النموذج الذي تقدمه للعالم هو النموذج الوحيد والأخير الذي يمكن أن يحتكم إليه البشر، ولا ينبغي السماح لأي نموذج آخر بالتواجد في هذا العالم الذي لا يسع إلا نموذجاً واحداً هو نموذج الحضارة الغربية المعاصرة، بما هو عليه وما يتضمنه من آفات دون تعديل أو تغيير!
إن اعتماد الحضارة الغربية في نشأتها على الأركان الثلاثة؛ العنصرية والداروينية والصراع، يفسر لنا بوضوح منطق الحروب التي خاضتها أوروبا ضد بعضها بعضاً؛ أولًا مثل حرب الثلاثين عامًا (1618-1648م) وحروب أخرى متفرقة، إلى أن انتقلت أوروبا بحروبها خارج القارة من خلال عصر الاستعمار الغربي للعالم، حيث أعلنت شعارها الجديد «حق القوة»، و«البقاء للأقوى»، وهو ما أدى فقط إلى شهود العالم في الفترة من عام 1945-1989م حوالي 138 حربًا أسفرت عن مقتل 23 مليوناً من البشر(1).
القرآن إنقاذًا للإنسان
لقد استبق القرآن بتشييد قواعد عادلة للحياة الإنسانية، هذه القواعد العادلة تقوم على مجموعة من الأصول تقضي مقدمًا على أسباب العداء ومظاهر النزاع الإنساني، واتجاهات الظلم والانظلام البشري، والتحيزات وكل صور الانحرافات في العلاقات الإنسانية بين البشر.
يقرر القرآن في الأصل الأول من هذه الأصول: وحدة هوية الخلق جميعًا، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء) (النساء: 1)؛ فلا يتمايز الناس باللون أو العرق أو الجنس؛ لأن أصل خلقتهم تلك النفس الواحدة التي خلقها الله تعالى ثم خرج منها باقي الخلق إلى نهاية الحياة على الأرض، فليس لأحد تفاخر بالأنساب أو اللون أو الجنس أو أي متغير وضعي؛ لأن وحدة هوية الخلق تجبّ كل ذلك.
الأصل الثاني: ويتعلق كلية بالأصل الأول، وهو أصالة مبدأ الكرامة الإنسانية (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، وهذا التكريم لكل بني الإنسان، لكل ذي يدين، وليست ميزة لجنس أو عرق أو دين.
إن وحدة هوية خلق الإنسان تقتضي بالضرورة وحدة الكرامة الإنسانية لكل ذلك الخلق، بلا نقص أو تشويه لكامل متطلبات هذه الكرامة، التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان من حق تقدير الحياة الفردية، وحق الوجود، وحق الاختيار، وحق الحرية، وحق تقرير مصيره، وحق المساواة.
الأصل الثالث: في طبيعة حركة الإنسان على الأرض، وطبيعة التكوين البشري، ويتمثل في مبدأ أصالة الاختلاف بين البشر، إن وحدة هوية الخلق جميعًا، لا يعني قولبتهم في جنس واحد مثلًا (ذكر فقط أو أنثى فقط) بل هناك تنوع واختلاف قائم على الانسجام في الدور والوظيفة (ذكر وأنثى) قال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: 13)، أو جعلهم على شاكلة واحدة: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود: 118).
إن الاختلاف في الطبيعة البشرية مآله كما يبينه القرآن هو التعارف البشري الذي يفضي إلى اكتشاف قيمة التنوع الإنساني، هذا التنوع هو مصدر الثراء الحضاري للبشرية، لأن القولبة في نمط واحد من البشر لا يصنع حضارة، ولا يفيد في التطور وتحسين الحياة البشرية وتلبية متطلباتها كما يبين ذلك بوضوح علماء الاجتماع.
وقد اعتبر القرآن تنوع الخلق واختلافه آية من آيات الله في الكون والخلق؛ (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم: 22)، وفي ذلك تعظيم كبير لكل ما تفرع عن الخلق الإنساني الأول «النفس الواحدة» وتقديرًا له وتعظيمًا لمكانته في الدنيا وعند الله تعالى.
الأصل الرابع: الحرية: يقرر القرآن أن الإنسان حر، وأعظم هذه الحرية فيما يعتقده من دين فلم يجعل من الإكراه سبيلًا للإيمان عامة، أو للدخول في الإسلام خاصة، قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة: 256)، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99)، (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29)؛ وهذا يعني أن حرية الإنسان حق من الله لا ينبغي الجور عليه ومنه: حرية القول وحرية التفكير وحرية الاعتقاد، وبالمثل حرية اختيار النماذج الحضارية التي يعتنقها الإنسان مدارًا للمعيش في السياسة والاقتصاد والاجتماع، فلا إجبار في الرأي/النموذج السياسي، ولا إجبار في اتخاذ نظام للقيم الذي يرغب الإنسان أن يعيش في ظلاله.
الأصل الخامس: التعاون البشري: يقرر القرآن أصالة مبدأ التعاون بين البشر، فهذا التنوع البشري الواسع لو لم يعتقد في مبدأ التعاون على ما يصلح البشرية، سيكون البديل النزاعات والعداءات الإنسانية -وهو ما تبنته الحضارة الغربية المعاصرة منذ نشأتها، حيث تأسست في ظلها تحالفات الحروب- لذلك وضع القرآن مبدأ التعاون على الخير ليكون مركزًا يلتقي عليه البشر المختلفون في الطبيعة الفكرية والاجتماعية والدينية، ونهى نهيًا قاطعًا أن تتشكل أنماط من التجمعات أو التحالفات تقوم على الشر والعدوان والإثم، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2).
هكذا يقدم القرآن نموذجًا مستقلًا وموضوعيًا لا يحتكم لأهواء البشر، ولا يقوم على التحيز لفئة أو جنس أو قبيلة أو شعب، لكنه يتحيز للإنسان كل الإنسان ذلك المخلوق المكرم مهما كان لونه أو عرقه أو جنسه أو اعتقاده.
______________________
(1) لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي: جيران في عالم واحد، ص 34.