مجمل أهداف العولمة هو العمل على انحسار القيم والسياسات الوطنية، وإضعاف العقائد والهويات، بفعل ما يسمى «النظام العالمي الجديد»، وهو نظام شمولي تفرضه الولايات المتحدة الأمريكية وأنظمة الغرب، تعتمد فيه على الجانبين الاقتصادي والإعلامي بالأساس؛ لخدمة أغراضها دون مصالح الآخرين، إما بالإكراه أو بالتبعية القهرية، لخلق مجتمع مفتوح من دون خصوصيات يسهل توجيهه، خصوصًا بعد التغيرات التكنولوجية العالمية، والتي سيطرت على روافد المعرفة.
صراع بين هويتين
ولقد أدّت هذه التطورات التكنولوجية إلى تلاشي الضوابط في عملية التربية، بعد طغيان مادي كبير هدد بنيان الأسر، وشتت الطفولة، وعرّض القيم الإنسانية للخطر، بالدعوة إلى الانسلاخ منها والذوبان في الآخر.. وأدت هذه التطورات، في عالمنا العربي والإسلامي، إلى وجود صراع بين المحافظة على تراثنا أو التحول إلى النظام العالمي الجديد، وما في ذلك من سحق للهوية وفرض للوصاية الغربية، وغياب الضوابط الحاكمة للسلوك، في ظل سيطرة مفاهيم وثقافة الأمريكي والأوربي، وهو القوي ونحن الضعفاء، وهو الزاحف ونحن المحصورون، تسانده في ذلك أنظمة رسمية رضيت بالتبعية منذ أمد، حتى من قبل محاولات فرض العولمة.
إقصاء الدين عن حياة المسلمين
ومما تسعى إليه العولمة ويجدُّ أصحابها في بلوغه هو إقصاء الإسلام عن التأثير في جوانب الحياة المختلفة، واعتبار الدين مسألة شخصية، عكس مقاصد الإسلام؛ باعتباره نظامًا شاملًا يتناول مظاهر الحياة جميعًا، فهو دولة ووطن، وحكومة وأمة، وخلق وقوة، وثقافة وقانون، ومادة وثروة إلخ، وما يستتبع ذلك من تهوين شأن اللغة العربية في مقابل فرض اللغات الأخرى، غير نشر ثقافة الجنس وتشجيع العلاقات التي حرّمها الإسلام، وتشجيع القيم الاستهلاكية ووسائل اللهو والترفيه.. وهذا معناه رفض السياسات التربوية التي لا تتفق مع قيم وثقافة الغرب، في تعسف وتسلط واضحين، يصطدمان مع مقومات الشخصية الإسلامية، أفرادًا ومجتمعات، ويرسخ أيضا لضرب عقيدتنا الدينية الحافظة لقيمنا الأخلاقية، وهو مقدمة لمخاطر أعظم تهدد الأمة في إرادتها واستقلاليتها.
أهمية التربية الروحية
تعد التربية الروحية نواة التربية الإسلامية، وهي تقوم على أسس من شأنها تقوية العلاقة بين العبد وربه، وبناء سياج إيماني منضبط بالشرع يحول بينه وبين الوقوع في الآثام أو التورط فيما يغضب الله، وهي بذلك وقاء نفسي من التبعية، ودافع نحو الكمال بما يعود بالنفع على الفرد والمجتمع.. وتتجلى القيم الروحية في الإسلام في العبادات والتعاليم الدينية، والتخلص من الآفات الاجتماعية الفاسدة والأخلاق المذمومة، وبث مزيد من قيم التعاون والتكافل المجتمعي.. وعليه؛ فإن القيم الإسلامية التي يتربى عليها النشء المسلم تعد حاكمة لسلوكهم، باعثة على العمل، تساعدهم على تحمّل المسئولية، وتمكّنهم من القدرة على حفظ مصالح دينهم وأوطانهم، في إطار نفسي يستمد منه النمط السلوكي السليم؛ ما يجعله قادرًا على مواجهة التحديات وأداء دوره الحضاري المنشود.. وهذا التهذيب المواتي لفطرة الإنسان باستطاعته صياغة الشخصية المسلمة صياغة متزنة كاملة، لا تحملها الأهواء في كل ناحية، بل هي شخصية ثابتة متجردة مستدامة الإيمان، مستعلية على غيرها بهذا الإيمان، لا ترى حقًّا غير الذي هي عليه؛ حيث لا شطط ولا غرور ولا خضوع.
الإسلام بديل وحيد
ومما يقرره المنهج الإسلامي ويربي عليه أتباعه، أن الإسلام لا بديل له فيما يخص التصورات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية إلخ، إذا قورن بغيره من الأفكار والمذاهب المنحرفة المستلة من الحضارة المادية المعاصرة وغيرها؛ من ثم فإن المسلم حذر تجاه ما تأتي به العولمة من قيم ينطبق عليها ما ينطبق على الأمم التي لا تقيم حدود الله وكفرت بأنعمه، ويعارض قيم الترف والبطر، ويشجب مظاهر الظلم والبغي وفرض الآراء بالبطش، ولو واتته الفرصة ومُكِّن في الأرض لمنع كل هذا وأطاع الله فيما أمر به، بالعدل بين الناس، والصدق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. لا يغتر المسلم إذًا بذلك التدفق الإعلامي والثورة المعلوماتية التي أفرزت ظواهر مدمرة تعاني منها المجتمعات الآن أيما معاناة، وقد أثّرت على الأطفال والمراهقين.. كما لا يسلم نفسه لتلك القيم الاستهلاكية التي أتت بها العولمة، فهي نشاز في تصور الإسلام، محرمة في شريعته.. وهكذا ينظر المسلم إلى بقية القيم السلبية التي أتت بها العولمة على أنها رجز من عمل الشيطان، أو عمل هدام يمارسه الإنسان الظلوم الجهول.
.. وللأسرة الدور الأكبر
وإذا كانت مؤسسات التربية تتعدد وتتشابك؛ فإن الأسرة تتحمّل الدور الأكبر فيما يخص تنشئة أبنائها على التربية الروحية، والمحافظة على فطرتهم وعقيدتهم، وتقوية شخصياتهم إزاء ما يجابههم من تغيرات حضارية.. فإن لم تفعل شب الأبناء على حب الشهوات، والانجراف نحو الثقافة المادية، فيصيبهم التشتت والاضطراب، ويلازمهم الإحباط، فيتيهون في مسارات الحياة، ويتبعون كل ناعق، وربما عبدوا الشيطان –عياذًا بالله- من دون الرحمن.. وهذا سرُّ سعي الغرب بكل ما أوتي من إمكانات في محاولات عولمة الأسرة المسلمة، وإفسادها بقيمهم المنحرفة؛ لأنها آخر عُرى مجتمعاتنا، بعدما نجحوا في تدمير كثير من القلاع في حروبهم الثقافية السابقة، ولأنها آخر الحصون المانعة لانحراف المجتمع، وكانت دائمًا –ولا زالت- تحمل شعلة الإيمان تهدي بها أبناءها إلى طرق الخير والرشاد، من خلال غرس القيم الروحية في نفوسهم وتنشئتهم كمشاريع إسلامية صعبة المراس، عصية على التبعية أو الانحراف.
مطلوب جيل واع بالتحديات
وإذا نجحت التربية الروحية، داخل الأسرة وغيرها من مؤسسات التربية، وأسست لشخصية مسلمة مغمورة بالإيمان واثقة في نفسها –بقي أن نحدد الخطوط العريضة لمجابهة تأثيرات العولمة على يد هذه الشخصية المعتزة بدينها، الواعية لما يدور حولها.. وأول هذه الخطوط؛ قيام مؤسسات تربوية، شعبية ورسمية، تُعنى بإعداد النشء روحيًّا، وتوعيتهم بأخطار العولمة وكيفية مجابهتها، وأيضًا إصلاح وسائل الإعلام بما يفيد هذا النشء ويوجه بوصلته ويرشده إلى سبل الهداية والصلاح، وكذلك إعداد جيل من المدربين أو المربّين ممن تم تأهيلهم للإرشاد الطلابي لتدريس التصور الإسلامي لمهددات مجتمعاتنا وهوياتنا، والعولمة واحدة من هذه المهددات، بتنمية الوازع الديني لديهم، وتوجيههم الوجهة الثقافية التي تؤهلهم للقيام بواجبهم في إصلاح أنفسهم أولًا، ثم القيام بدعوة غيرهم، ودرء المفاسد عن دينهم وأوطانهم، وغرس روح الانتماء للأمة في نفوسهم.