كل ما صدر عن أولي الأمر من أحكام وتنظيمات، لم يأت فيها دليل من الشرع ولم تكن مخالفة له، في تدبير شؤون الناس وما يحقق مصالحهم، يعتبر من السياسة الشرعية التي أباحها الإسلام لتحقيق مصالح الناس، فهل تدخل العبادات الإسلامية ضمن السياسة الشرعية؟
وجه الغرابة في دخول العبادات الإسلامية ضمن السياسة الشرعية
العبادة هي ما أمر الله تعالى بفعله على وجه التعبد، وهي توقيفية؛ أي صادرة عن الشرع الشريف ولا دخل للعقل فيها، أما السياسة الشرعية فهي قائمة على الاجتهاد والنظر وإعمال العقل في الأشياء، فكيف تدخل العبادات ضمن السياسة الشرعية؟!
وقد حددها الله تعالى في القرآن الكريم وبيَّنتها السُّنة النبوية الشريفة، ففي صحيح الجامع عن مالك بن الحويرث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صَلُّوا كما رَأَيْتُموني أُصلِّي»، وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خُذُوا عني مَناسِكَكم».
فإذا كانت العبادات الإسلامية محددة بالنص القرآني الكريم والتطبيق النبوي الشريف؛ فليس لأحد أن يزيد فيها أو ينقص منها، فهنا تكون البدعة التي حذّر منها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «ألا وإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»(1)، وهي مردودة غير مقبولة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليسَ فِيهِ، فَهو رَدٌّ»(2).
وتأسيساً على ما سبق، فإن السياسة الشرعية لا تدخل إلى العبادات الإسلامية في ذاتها أو مضمونها؛ لأن العبادات من حيث شرعيتها وأدائها موضوعة للتعبد دون النظر إلى المصالح أو النتائج التي يبحث عنها الناس ويقصدونها، وهذا هو ما عبر عنه الإمام الشاطبي بقوله: الأصل في العبادات بالنسبة للمكلف التعبد، دون الالتفات إلى المعاني، إذ لا مجال للعقول في اختراع التعبدات، فكذلك ما يتعلق بها من الشروط(3).
متى تدخل السياسة الشرعية في العبادات الإسلامية؟
إذا كانت السياسة الشرعية لا تدخل إلى العبادات في ذاتها أو مضمونها أو طريقة أدائها التي حددها الشرع الشريف، فمتى تدخل السياسة الشرعية في العبادات؟
هناك حالات يمكن حدوث ذلك فيها، وهي كالتالي(4):
أولاً: إذا فُوِّض أمر العبادة إلى ولي الأمر:
قد يفوض الشارع الحكيم بعض متعلقات العبادة لولي الأمر، فيكون هو المسؤول عن تنظيمها وضبطها، بدءاً من الإذن بها حتى الانتهاء والانصراف منها، شريطة أن يكون ولي الأمر متمثلاً للنصوص التي وردت بشأن هذه العبادة، ومن الأمثلة على ذلك: عبادة الجهاد في سبيل الله، فجهاد الطلب إنما يكون تحت راية ولي الأمر، وهو الذي يأذن ببدئه، ويقود الجيوش أو يوكل من يتولى ذلك كما أنه هو المسؤول عن رجوع الجيش.
ثانياً: وسائل العبادات:
تدخل السياسة الشرعية في باب الوسائل التي تؤدي إلى يسر أداء العبادة أو الإتيان بها على الوجه الذي قصده الشرع الشريف، وقد تنوعت الأمثلة في ذلك، فمنها:
1- ما فعله سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه حين أضاف أذاناً أولاً يوم الجمعة، حيث إنه لما رأى الناس يتكاسلون عن التبكير لصلاة الجمعة أمر باستحداث أذان أول قبل الأذان المباشر للخطبة، في مكان مرتفع في المدينة، حتى إذا سمعه الناس تركوا أعمالهم وتجارتهم وانصرفوا استعداداً لصلاة الجمعة، ففعله ليس معارضاً لنص شرعي، كما أنه ليس ابتداعاً في الدين؛ لأن الأذان من أحكام الوسائل لا من أحكام المقاصد.
2- ومن الأمثلة على دخول السياسة الشرعية في وسائل العبادات: بناء المنارات ورفعها، والمقصد من ذلك هو جعلها علامة للمساجد ورفع الأذان عليها حتى يصل إلى أقصى الحي الذي فيه المسجد.
3- تحديد الوقت بين الأذان والإقامة كما هو حاصل في أنظمة أكثر الدول الإسلامية.
4- تقييد عدد مرات الحج والعمرة: فتكرار الحج أمر مستحب أمرت به الشريعة، فقد أخرج النسائي عن عبدالله بن عباس قال: قال صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد»؛ وعلى هذا فإنه يستحب الإكثار من الحج.
ولكن لما تيسر أمر الحج في هذا الزمن وكثرت الطرق من بحرية وجوية وبرية وكثر الحجاج؛ مما جعل المشاعر لا تستوعب أعدادهم، كان لولاة الأمر الحق في تقييد هذا المستحب بالسماح لعدد محدد من الناس وتقييد المدة الزمنية للذهاب إلى الحج أو العمرة، حفاظاً على أرواحهم وحرصاً على تيسير مهمته.
وهذا القرار يعتبر من السياسة الشرعية يجب العمل به وهو قرار مشروع لا يجوز الطعن في مشروعيته بحجة مخالفة النص، بل يجب الأخذ به قدر الاستطاعة، ولعل لهذا التصرف من قبل ولاة الأمر في هذا الزمان مثال مشابه إلا أنه على العكس منه، وذلك في زمن عمر بن الخطاب حينما أمر الناس بأن يفردوا في الحج ونهاهم عن التمتع؛ وذلك بقصد ألا تبقى مكة خالية من الناس بعد أشهر الحج فيأتي إليها المعتمرون من كل مكان، أما لو اعتمروا مع الحج فإن ذلك سيكون مدعاة إلى تكاسلهم وضمهم العمرة مع الحج.
إن مجال السياسة الشرعية إنما هو ثابت فيما لم يرد به النص الشريف وكان محققاً لمقاصد الإسلام ومصالح الناس، أما العبادات الإسلامية فقد حددها الشرع الشريف وبيّن أركانها وطريقة الإتيان بها، وعلى هذا فلا تدخل السياسة الشرعية في العبادات الإسلامية إلا في المساحة التي أوكلها الشرع الشريف إلى أولي الأمر من المسلمين، أو كانت داخلة في الوسائل التي تيسر العبادة وتساعد في أدائها.
__________________________
(1) أخرجه النسائي في السنن (1578).
(2) أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718)
(3) الموافقات: أبو إسحاق الشاطبي (1/ 440).
(4) محاضرات في السياسة الشرعية: د. عبد الله بن إبراهيم الناصر، ص 100.