على مر العصور حاول الكثيرون إقصاء السُّنة النبوية المطهرة عن مصادر التشريع ومواضع التأثير الحيوية على بناء الأمة تحت مسميات كثيرة بدعوى الاكتفاء بالقرآن الكريم فهو الكلام المنزل من السماء والمعصوم من احتمالية الخطأ، ويعد ذلك من أكبر عمليات التزييف التاريخي والتشريعي والعقيدي والسلوكي؛ وذلك لمكانة السُّنة في الإسلام، وهي المفسرة لكتاب الله عز وجل، أو التطبيق العملي لتعاليمه المجملة وتفصيل أحكامه وتبيين ماهيتها وكيفيتها، فمهمة النبي صلى الله عليه وسلم تمثلت في محورين أساسيين: التبليغ والتبيين.
السُّنة المصدر الثاني للثقافة الإسلامية
السُّنة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، وهي كذلك المصدر الثاني للثقافة الإسلامية، فشخصية المسلم حين تشكلت في فجر الرسالة، تلك الشخصية التي استطاعت مواجهة الممالك لتحل محلها حضارة إنسانية منقطعة النظير، لم يشهد العالم مثلها، وفشلت الإنسانية حتى اليوم أن تؤتي مثلها، تشكلت تلك الشخصية برافدين أساسيين؛ وهما القرآن الكريم والسُّنة المطهرة، فأخذت الدين والشرائع والتعاليم والأخلاق من القرآن مجملة، ثم عايشت كل هذا فعلاً وتفصيلاً مع النبي صلى الله عليه وسلم، كالصلاة مثلاً التي تنزل الأمر بها وفرضها، ثم بينت السُّنة تفاصيلها من حيث عدد الركعات في كل فريضة وواجباتها وسننها وهكذا.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء: «ألا إني أُوتيتُ القرآنَ ومثلُه معه، ألا يُوشِكُ رجلٌ شبعانٌ على أريكتِه يقول: عليكم بهذا القرآنِ، فما وجدتم فيه من حلالٍ فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرِّموهُ، وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللهِ كما حرَّمَ اللهُ، ألا لا يحلُّ لكم الحمارُ الأهليُّ، ولا كلُّ ذي نابٍ من السباعِ، ولا لُقَطَةُ معاهدٍ إلا أن يستغنيَ عنها صاحبُها، ومن نزل بقومٍ فعليهم أن يَقْرُوهُ، فإن لم يَقْرُوهُ، فله أن يُعْقِبَهُمْ بمثلِ قِرَاهُ» (أخرجه أبو داوود).
ومن هنا ندرك أهمية السُّنة النبوية، وأنها تأتي في المرتبة الثانية بعد كتاب الله عز وجل الذي قال: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (النور: 54).
وهذا ما أدركه الصحابة وعملوا به، وحين يسأل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل عندما أرسله قاضياً لليمن: «بم تقضي؟»، قال: بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد؟»، قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «فإن لم تجد؟»، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسوله إلى ما يرضي الله ورسوله» (رواه الترمذي).
منهج السُّنة في تشكيل عقيدة وسلوك المسلم
تميزت السُّنة النبوية في عملية تشكيل الشخصية المسلمة بفكرة المنهج الشامل، فلم تركز على جانب من تلك الشخصية دون الآخر، وإنما استطاعت أن تصنع عملية توازن عجيبة لا يمكن أن يحيط بها منهج بشري وضعي.
يقول الباحث برغوث عبدالعزيز بن المبارك: وما دامت السُّنة النبوية مصدراً من مصادر الثقافة الإسلامية، فإنها تؤثر في الجانب المعرفي والجانب الثقافي في بناء شخصية المسلم، وعليه فمن الضروري دراستها من الجانبين:
1- السُّنة النبوية كمصدر للبناء الثقافي النظري والمرجعي (عالم العقيدة والأخلاق الإسلامية).
2- السُّنة النبوية كمصدر للنظام السلوكي لدى الأشخاص (عالم السلوك وعالم العمران)(1).
وفي دراسة أكاديمية للدكتور يحيي شطناوي(2)، حدد فيها أبرز الأطر المنهجية لتكوين شخصية المسلم في فجر الرسالة، وذلك في 5 محاور أساسية تعتبر هي محددات الشخصية المسلمة في عصور الازدهار الأولى:
1- الحرية في طرح السؤال:
هنا نجد فارقاً كبيراً بين منهج التربية الإسلامية وغيره من المناهج التي ترفض تماماً مبدأ المناقشة حتى لا يظهر عوار فكرتها، فنجد على سبيل المثال عبارة «اعتقد وأنت أعمى» التي لا يمكن أن تجد لها مثيلاً في الإسلام، فنجد أن آيات القرآن تحث على السؤال، وعلى البحث، وعلى التدبر، وعلى تقليب النظر في خلق الله، كل تلك المعاني تحفز العقل على العمل والنظر والفكر والاكتشاف.
2- التفاؤل والإيجابية:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يغرس في أصحابه معنى الإيجابية والتفاؤل وتوقع الخير دوماً، فليس هناك تفاؤل وإيجابية أكثر من أن تقوم الساعة ويغرس الإنسان فسيلة في يده، فما قيمة الزرع وهو لن ينمو ولن يستفيد منه أحد؟ قيمته في الفعل نفسه وليس في النتائج المرجوة وقد انقطعت النتائج بانقطاع الدنيا وقيام الساعة، لكنها قيمة الفعل، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل» (البخاري في الأدب المفرد)، وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة» (متفق عليه).
3- الاعتداد بالنفس وعدم التبعية:
عزة النفس والكرامة والرفعة والسمو وحفظ ماء الوجه، كلها معان متصلة بالإسلام العزيز، ونبي الإسلام يحث المسلم على العفة، والعمل، والتكسب، وأن تكون يده دوماً هي اليد العليا، فيقول صلى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس اعطوه أو منعوه» (رواه البخاري).
4- الاعتدال في العبادة:
الإسلام دين الفطرة، يتماشى مع متطلبات الإنسان الجسدية، والنفسية، والروحية، راعت الشريعة تيسير العبادة لضمان استمراريتها، وربت السُّنة النبوية المسلمين على الاعتدال والوسطية، فلا هي تأمر الإنسان بما ليس في طاقته فيقعد في منتصف الطريق، ولا هي تتركه لنفسه فيهمل عباداته ويبتعد عن رب العالمين فتفسد نفسه وتفسد روحه وتتوقف حركة العمران في الأرض.
فعن عبدالله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه» (رواه البخاري).
كذلك راعت السنة النبوية الفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة، وبين الصغير والكبير، بل وعلى قدر عقولهم.
5- مراعاة الآداب مع الآخرين:
كما تراعي السُّنة كافة الآداب الراقية مع الفرد، فهي كذلك تحفظ على هؤلاء أن حقهم في معاملتهم بأخلاق إسلامية سامية، وآداب عالية، فلكل فرد الحق في فعل ما يريد طالما أنه لا ينال من حقوق الآخرين، وطالما أنه لن يؤذي أحداً ولو كان إيذاء نفسياً بسيطاً، ولم يترك حق إنسان ولو كان خادماً، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين، أو لقمة أو لقمتين، فإنه ولي حره وعلاجه» (رواه البخاري).
تلك أهم معالم شخصية المسلم التي شكلتها السُّنة النبوية الشريفة ليكون الإنسان الحضاري الذي عرفه العالم وذلك بفضل تعاليم قرآنه وتطبيق سُنته.
_________________________
(1) المنهج النبوي والتغيير الحضاري، تأليف برغوث عبدالعزيز بن المبارك.
(2) الأستاذ بكلية الشريعة جامعة اليرموك، في دراسة بعنوان «أثر السُّنة النبوية في بناء الشخصية الإسلامية».