ما أحوج الأمة اليوم لاستعادة الثقة بالله عز وجل لتعود إليها الطمأنينة والإرادة والهمة العالية في استعادة ذاتها، ولقد تأخرت كثيراً حين انهزمت وتراجعت ثقتها بالله ثم بنفسها وبني على ذلك حالة من الإحباط بين شعوبها لتستسلم في النهاية لذلك الوضع المزري، وتلك المحنة التاريخية الشديدة، رغم قوة المنهج الذي ما زالت تملكه بين يديها.
وسوء الظن بالله عز وجل لا ينمو إلا في أجواء الضعف الإيماني للأمة وأفرادها على السواء، وجهل به سبحانه وتعالى وبقدره وقدرته على تغيير الأوضاع من هزيمة إلى نصر بكلمة كن فيكون.
حسن الظن من علامات اكتمال الإيمان
حسن الظن بالله تعالى هو اليقين والاطمئنان لتحقق وعد الله تعالى للمؤمنين برحمته وكرمه وعطائه ومغفرته، شرط أن يقدم المؤمن ما في وسعه عملياً لاستحقاق ذلك العطاء هو قوة اليقين بما وعد الله تعالى عباده من سعة كرمه ورحمته، ورجاء حصول ذلك، فهناك فرق كبير بين حسن الظن والاغترار بالله عز وجل، وقال الحسن البصري: «إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل»(1).
المؤمن الذي يوقن برحمة الله يُقبل على العمل الصالح وهو يحسن الظن بربه أنه يقبل العمل ويأجره عليه، وكذلك حين يجاهد في سبيله سبحانه، فيخرج مجاهداً مطمئناً لوقوع النصر حتماً ولو تأخر لحكمة عند ربه، فحسن الظن مرتبط بالإيمان صعوداً وهبوطاً، ويوازيه حسن العمل.
يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» (رواه البخاري، ومسلم)، وفي هذا الحديث الشريف نجد أن حركة القلب تؤثر على حركة الجوارح، فالقلب يؤمن، والجوارح تعمل، والله عز وجل يستجب، وبهذا فلا تجد مؤمناً يائساً، أو مكتئباً.
وكما أن حسن الظن بالله من علامات الإيمان، فهو كذلك ثمرة من ثمرات حسن التوكل على الله تعالى، فالمؤمن يبذل وسعه كله، ويستنفذ الأسباب كلها وقلبه متعلق بالله سبحانه، ثم هو مطمئن لأن نصر الله آت، وأن الغلبة للمؤمنين، وأن راية الله حتماً إلى رفعة، وأن الباطل مهما بقي فهو إلى زوال تصديقاً لقوله سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) (الفتح: 28).
مواطن حسن الظن بالله
يقول ابن القيم: «ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان، فإن المحسن أحسن الظن بربِّه أن يجازيه على إحسانه، وألَّا يخلف وعده، وأن يقبل توبته، وأما المسيءُ المصرُّ على الكبائر والظلم والمخالفات فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حُسْن الظن بربِّه»(2)، ويتحقق حسن الظن في مواطن كثيرة عند المؤمن، منها:
1- أن المؤمن يدعو الله عز وجل وهو موقن بالإجابة، فلا يعتريه حزن أو خوف أو قلق أو، يصدق قول نبيه صلى الله عليه وسلم: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ» (رواه الترمذي).
2- أن المؤمن بحسن ظنه بالله يوقن أن عمله الصالح الخالص لله تعالى فإنه يتقبله مصداقاً لقوله سبحانه: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: 10).
3- ثقة المؤمن في نصر الله حتى لو انتهت بعض المعارك بالهزيمة والتضحيات العظيمة، فالعبرة في الأعمال بالخواتيم، والمؤمن يحركه قوله تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ {51} يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (غافر)، وقوله سبحانه: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214)، فالأمر يصل إلى الزلزلة حتى يتم اختبار قلب المؤمن وثباته، ثم يأتي النصر ليشفي الله صدور قوم مؤمنين
4- حسن الظن بالله في قبول توبة التائب حيث يقول رب العزة: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة: 104)، وحينها يقبل المؤمن على الله تعالى بتجديد التوبة وسرعة الرجوع إليه ولا يتمادى في سقوطه أو انحرافه.
5- حسن الظن بالله بأنه رازقه وإن توقفت الأسباب وانقطعت الحيلة، فعن عمر بن الخطاب، قال: قال: رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لو أنَّكم كنتم تتوكَّلون على الله حقَّ توكله، لرُزقتم كما يُرزق الطير تغدو خِماصًا وتَروح بِطانًا» (رواه الترمذي)، فليس على المسلم إلا السعي مع يقين بالله أن لن يتركه.
6- حسن الظن بالله عند الموت فيلقى الله وهو موقن برحمته، فعن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: «لا يموتَنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل» (رواه مسلم).
اليأس والقنوط من رحمة الله كفر
واليأس والقنوط من رحمة الله مدعاة لكل منقصة ومذلة ومعصية، فمن يقنط تسوء نفسه حتى يفقد الرغبة في إصلاح لنفسه، فما فائدة الإصلاح طالما أنه غير مؤمن بقبول الله لتوبته أو عمله، ولذلك قال تعالى: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، وقال سبحانه: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر: 56)، فالمؤمن لا ييأس، وإن كان يخاف ذنبه، فيكثر التوبة، ويكثر الذكر، ويتعلق قلبه بالله ليغفر له، ولقد فتح الله عز وجل باب الأمل والرجوع برحمته في وجه كل إنسان مهما بلغت ذنوبه حتى لا يقنط ويسرع بالرجوع، فقال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53)، وقال سبحانه: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 156).
ثمرات حسن الظن بالله
ولحسن الظن بالله ثمار إيجابية عديدة تنعكس على حياة المؤمن في الدنيا إلى جانب ثماره على آخرته، فعلاوة على أنه جزء من إيمانه وعلامة له، فلها آثار لا يمكن حصرها، نذكر منها:
1- اطمئنان النفس لجنب الله عز وجل، حيث إن لكل ابتلاء نهاية، ولكل شدة فرجاً، ولكل هزيمة نصراً يمحوها، ولكل ذنب مغفرة طالما كانت هناك توبة
2- هو أول طريق الجنة، حيث يأخذ بيد المسلم لكل فضيلة، فمن يؤمن بالقبول يقبل، ومن يقنط من الله يبتعد.
3- يضمن سلامة القلوب من أمراض مثل الكراهية والغل والحسد، حيث إن الطريق مفتوح للجميع على السواء أمام الله.
4- فيه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، حيث كان ديدنهم حسن الظن بالله، فيقول الله تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40).
__________________________
(1) درر رمضانية من كلام ابن القيم الجوزية، أحمد مرشد، ص 43.
(2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، ص 22.