سماحة الأستاذ أبو علي الأعلى المودودي
نقله إلى العربية: خليل أحمد الحامدي
الشباب هم الجيش العرمرم لرفع ألوية الخير والصلاح
يوسف الشاب عليه السلام غيَّر حضارة أمة كاملة
وهل كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا شبابًا
إخواني الأعزاء!
اشتركت في هذا اللقاء الذي نظمته «إسلامي جمعية الطلبة» وقلبي مغمور في موجة عارمة من الارتياح والاغتباط.
أصبحت أذكر تلك الساعة التاريخية التي أسس فيها حفنة قليلة من الشباب تلك الجمعية قبل ثمانية وعشرين عامًا.
ولم يكن يخطر ببال أحد في تلك الساعة أن تلك الجمعية ستشكل قوة هائلة وقوة حاسمة في البلاد، وبقينا نعيش حالة الحيرة إلى أمد طويل نشك في تقدم الجمعية ومستقبلها.
ولكن كان من محض فضل الله ولطفه أنه استجاب لإخلاص شباب الجمعية وإيمانهم في النهاية، وبارك في جهودهم، وأفاض عليهم بالتوفيق والعزيمة الصارمة حتى نرى اليوم، بفضل تلك الجهود الصادقة أن الجمعية هي التي تحرز الانتصار تلو الانتصار في الانتخابات في أغلب المؤسسات التعليمية في البلاد وتنم تلك الانتخابات بدون شك عن ظاهرة ملموسة هي أن الأغلبية الساحقة للشباب في البلاد تتفاعل اليوم مع الحركة التي تقودها الجمعية، وترفع لواءها وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يمن عليكم بمزيد من الإخلاص، وأن يكتب لكم مزيدًا من التوفيق، وأن يغشيكم بمزيد من رحمته وتأييده، وأن يوجه جهودكم في صرف النشء الجديد من مسالك اللادينية ومسارب الإلحاد والإباحة إلى سبل الربانية والتقوى والصدق، ليتم على يديه قيام النظام الإسلامي في هذه الربوع.
والموضوع الذي اختير لكلمتي في هذا اللقاء هو: تحديات العصر الجديد والشباب
ما معنى «العصر الجديد»؟
يجب عليكم قبل كل شيء أن تتفكروا: «ما هو العصر الجديد»؟
إن الإنسان في كل عصر اعتبر عصره «عصرًا جديدًا» وظن العصور السالفة عصورا بائدة كانت تخلو من المزايا والمحاسن.
وبعد أربعة آلاف من السنين يصاب به البلد البالغ في التحضر والتطور مثل أمريكا التي تدعي أنه لا يقارعها بلد في العالم كله في نهضتها ورقيها – ونرى فيها ورثة قوم لوط يربو عددهم على عشرين مليون نفر.
فأي فرق يا ترى قد طرأ على الإنسان في فطرته في تلك المئات من القرون وهكذا إذا قال فرعون – في قديم الأزمان- لوزيره: فأجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى، أين هو؟ ومن هو؟ وكيف هو؟ نرى اليوم وبعد ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة مضت على تلك القولة أنه لما ارتفع القمر الصناعي الأول الذي أطلقته روسيا إلى مائة وخمسين أو مائتين ميلا من الأرض إلى الفناء أنفجر رئيس وزرائها آنذاك المستر خروشيف قائلا: أطلعنا إلى الآفاق السماوية لم نجد فيها أي وجود للإله؟ ويعلم من ذلك بداهة أنه لم يدخل أي تعديل على عقلية الإنسان في تلك الحقبة الطويلة من الزمان التي تشمل على ثلاثة آلاف وخمسمائة من السنين.
لم يتبدل أسلوب تفكيره ونظره إلى الأشياء، نعم إذا حصل هناك فرق في هذا الباب فهو أن فرعون ما كان يقدر في ذلك العصر إلا أن يبني عمارة شامخة لتحقيق غايته إلى أكثر الحد.
أما منكرو العصر الحاضر وفراعنته قد تمكنوا من صنع الأقمار الصناعية وغزو الفضاء، أي حصل تطـور في التكنولوجيا فقط ولم يحصل أي تطور من الناحية العقلية. وكما أن الدهرية وجدوا في سالف الأزمان كذلك يوجدون في العصر الحاضر.
وكما أن دعاة الفجور والمجون ومقترفو السوء والفاحشة برزوا إلى مسرح الحياة في الأحقاب الخالية كذلك شوهدوا اليوم وفي العصر الحاضر.
أي أنه لم يدخل أي فرق حتى في نوعية مجونهم وفجورهم هكذا، وكما أن الدنيا رأت أناسًا عرفوا الحق، وآمنوا به، وجاهدوا في سبيله في زمن نوح عليه السلام كذلك ترى الدنيا اليوم وفي العصر الحاضر جماعات من البشر من حملة الحق ودعاته.
فما زال الخير هو الخير بنصه وفصه، وما زال الشر هو الشر بقضه وقضيضه ومن تقدم وسائل الإنسان وأساليبه، واكتشافاته العلمية واستخدام تلك الاكتشافات في مجالات الحياة إذا طرأ على طبيعة الإنسان فرق فليس ذلك الفرق أساسيا وجوهريا وإنما هو فرق في التقنية والأسلوب.
ولا يغيبن عن البال أيضا أن الناس في كل عصر من العصور اعتبروا معالم التقدم فيه نقطة النهاية وخاتمة المطاف.
ولكن ما أن لبث أن تحول ذلك العصر بتقدمه وبهيله وهيلمانه إلى عصر بائد نعت بالبلی والخلوقة.
ثم وقع الناس في العصور التالية في نفس الفكرة الخاطئة التي وقع فيها أسلافهم من العصور الأولى.
فإلى نهاية القرن الماضي وجد في الدنيا بعض العلماء والفلاسفة الذين كانوا يرون أن الجهاز الحديدي أو أي شيء يكون أثقل من الهواء لا يستطيع التحليق في الجو.
وكانوا يرون ذلك أمرا مستحيلا، غير أنه لم يمض على هذه الفكرة فترة طويلة إلا وصارت الأجهزة الحديدية تحلق في السماء في العشر الأول من القرن العشرين.
وثبت من ذلك أن الذين كانوا إلى ما قبل عشر أو خمس عشرة سنة يقولون باستحالة ذلك كانوا رجعيين.
هذه هي حقيقة ما اصطلحوا عليه العصر الجديد أي حسب الإنسان في كل عصر من عصور التاريخ أنه بلغ من التقدم أقصاه.
ولكن العصر الذي لحقه انفتح فيه المزيد من أبواب التقدم، وتحقق فيه المزيد من الرقي حتى أصبح العصر الذي سبقه فترة رجعية بائدة بالنسبة إليه.
إن الفلسفة ليست اليوم في المستوى الذي كانت في مفتتح هذا القرن، ونفس القول ينطبق على العلوم الطبيعية، إذ إن الوضع الذي كانت عليه العلوم الطبيعية في بداية هذا القرن يختلف كثيرا عن وضعها الراهن.
وقل مثل ذلك في باب الأخلاق فإن مظاهر العري والتفسخ التي كانت توصف في مستهل هذا القرن بمنتهى الحرية توصف اليوم بالرجعية وهلم جرا.
ما المراد من الشباب؟
وبعد أن أدركتم حقيقة – العصر الجديد إدراكا جيدا خذوا الآن النكتة الثانية من البحث وهي ما هو المراد من الشباب؟
الشاب ليس خيرا محضا أو شرا محضا الشاب عبارة عن الدم الفائر، عن قابلية اكتساب كل ما هو حديث، عن كائن إذا اقتنع بشيء، أنه حقيق بالاكتساب لا يتأخر عن التضحية بالنفس في سبيله، بغض النظر عما إذا كان ذلك الشيء سيئا أو حسنا وقوة الشباب هذه مثلها كمثل حد السيف سواء استخدمه المجاهد في سبيل الله أو قاطع الطرق.
إن الشباب هم الذين كانوا دعاة المساوئ والمنكرات في أقدم العصور كما كانوا هم الجيش العرمرم لرفع ألوية الخير والصلاح.
حسنة كانت أو سيئة أن الشباب هم أسرع اندفاعا إليها من الشيوخ، وهذه الظاهرة لا تخص عصرا دون عصر، بل عمت جميع العصور وشملت كل الدهور.
إن القبائح الخلقية التي تنتشر اليوم في أرجاء العالم، الشباب هم أول المقبلين عليها وهم الذين يزيدونها انتشارا ورواجا أكثر من غيرهم، بل هم الذين يتفننون في ابتكار المساوئ الجديدة في الحياة الاجتماعية، ولأجل ذلك أقول:
إن الشباب ليس عبارة عن الخير المحض، كما أنه ليس عبارة عن الشر المحض، إنه إذا رغب في شيء من الخير، واطمأن إلى كونه خيرا وجد في نفسه ما يجعله يضحي في هذا السبيل بنفسه ونفيسه، ويقارع كل قوة ضده مهما بلـغ شأنها وعظم أمرها، وتنشط مواهبه في ترویجه بعلمه وعمله.
مثل من؟ سيدنا يوسف عليه السلام
خذوا حضارة مصر القديمة، إن أوضاعها في عصر سيدنا يوسف عليــــه السلام لم تكن تختلف عما عليه حضارة أمريكا وأوروبا اليوم، لكن قام شاب وحيد -يوسف عليه السلام- يحارب كل ما تضمنته تلك الحضارة من ضلالات وانحرافات بصمود وإباء ويرفض كل ما تحتوي عليه من مغريات ومطامع.
إنه جعل السيدات المتحضرات اللائي كدن يفتحن له أحضانهن ويغرينه على السوء، جعلهن يلهجن بسمو خلقه ونزاهة ذيله، وأعلن وهو في غياهب السجن رفضه لآلهة مصر الباطلة المزيفة وإقراره بوحدانية الله الواحد القهار. وفتح البلاد المصرية كلها، لا بجيش مدجج بالسلاح، بل بمحض ما كان عليه من طهارة الأخلاق وما أوتي من العلم والذكاء حيث قال: “اجعلوني على خزائن الأرض” فتجاوب له من كانت بيده تلك الخزائن بدون تلكؤ قائلا: هذه هي الخزائن وأنك لأنت الأمين الذي تفوض إليه الخزائن وتسلم إليه المقاليد.
مثال آخر من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام:
لقد رأينا في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لما قام صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الحق نهض رؤساء مكة يحاربون دعوته ويصدونه عن سبيل الله فصار الشباب في طليعة المستميتين في هذا الصراع في كلا الطرفين: طرف الحق وطرف الباطل، ففي جانب كان الشباب من الكفار يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويصبون عليهم أنواعا من العذاب والتنكيل بتحريض من سراتهم.
من كان أولئك الذين سحلوا بلال على رمال ملتهبة؟ ألم يكونوا شباب مكة الذين سلكوا هذا الطريق المعوج بوحي من شيوخهم!
وفي الجانب الآخر نرى الذين تولوا نصرة الحق والذود عن حياضه كانوا هم أيضا شباب مكة نفسها من الذين آمنوا بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادقة بإخلاص وتجرد.
ثم تناهوا في الاستماتة والتضحية في سبيلها.
خذوا القائمة بأسماء أصحاب الرسول الأوائل، لا تجدوا فيها إلا بضعة أشخاص ممن كانوا أكبر سنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم والباقون كلهم كانوا أصغر سنا، منهم من كان في السنة العاشرة من عمره، ومنهم من لم يتجاوز عمره خمسة عشر عاما، ومنهم من لم يبلغ إلا ثمانية عشر عاما، ومنهم من بلغ من عمره عشرين أو أحدا وعشرين ربيعا فقط. وكان أكبرهم سنا لم يتجاوز عمره ثمانية وثلاثين سنة. وهؤلاء الشباب هم الذين تواثبوا إلى نيران النماردة بدون توقف، كانوا يرون بأم أعينهم نيران العسف تتلظى، كانوا يعلمون علم اليقين أن اعتناق الإسلام عبارة عن تأليب الوحوش الكاسرة عليهم تنهشهم نهشا؛ ولكنهم رغم ذلك قاموا وأعلنوا أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولم يكترثوا أبدًا بعواقب هذا الإعلان، فتكابدوا كل محنة وعذاب، واستقبلوا كل ظلم واضطهاد، ولما ضاقت عليهم أرض مكة تركوا ديارهم إلى الحبشة والمدينة، بدون أن يمر بخلدهم ماذا عسى أن يجابههم في المهجر من محن وشدائد.
الشباب هم الذين سجلوا هذه التضحيات الجسام في سبيل الحق، بما فيهم فتيات وفتيان، وهؤلاء كانوا أبناء الأسر التي كان رؤساؤها ألد أعداء الإسلام وأخبروا بفضل تضحياتهم الجسيمـة وبطولاتهم الرائعة رفرف علم الإسلام فوق المعمورة أنهم بمسايرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه أحدثوا في العالم انقلابا عظيما دام قرونا طويلة.
ولا يزال قائما وسيبقى ما دامت السماوات والأرض، بإذن الله العلي الكبير.
ولتلقوا نظرة عابرة على هذا-العصر الجديد- الذي يقال عنه بمنتهى الاعتزاز والمباهاة أنه عصر التقدم والرقي، إنه عصر الفكر المتنور.
ومما يمتاز به هذا العصر هو تقدمه العلمي وهو على كونه أمرا جديرا بالتقدير والإجلال يستغل استغلالا فاحشا في دمار البشرية وهلاكها وشقائها أكثر من أن يستغل في سعادتها وسلامها وبواسطة هذا التقدم العلمي يبتكر اليوم لإبادة الشعوب بأسرها أخطر ما يمكن من الأسلحة والأدوات، ويعد لتنكيل الإنسان وتشويه شخصيته من المعدات ما لا مثيل له في تاريخ الشيطانية، وتكتشف للجاسوسية أساليب لم يبق أمامها أي معنى لحياة الإنسان الخاصة، وتكرس الدراسات لتوليد الإنسان بطريقة يتولد الإنسان بعدها في معامل العلم.
بدون اتصال الأب والأم بطريقة فطرية.
وطبعا المتولدون بتلك الطريقة العلمية سوف لا ينتمون إلى أسرة من الأسر، ولا يميل بعضهم إلى بعض أو إلى غيرهم من الإنسان میلاً فطريا، ولا يرتبطون بماض له التقاليد المتوازنة أو الجذور الممتدة، وسوف تجهز المصانع -الأوادم- من كل لون من الألوان وكل صورة من الصور وكل شيمة من الشيم وكل قابلية من القابليات حسب مبدأ الطلب والعرض في الأسواق، وتبيعهم للأشخاص أو للشركات والحكومات بالمفرد أو بالجملة وهكذا يريد تمرد العلماء الملحدين أن يبلغ من التدهور نهايته ليفتح على البشرية أحدث عصور الاستعباد وأسوأها، ينحط فيهـا الإنسان إلى درجة الأغنام والأبقار، بل لعل المصانع سوف تعد للأنظمة المناوئة لكرامة الإنسانية في العالم -أوادم- عند الطلب يكونون أشد افتراسا من الوحوش الضارية هذا هو التقدم العلمي الذي يفتخر به غاية الافتخار ويدَّعي أنه قد سما بالإنسان إلى آفاق السماء.
مع أنه في الحقيقة أنه قدر ما رفع الإنسان قدر ما هبط به. وأنه جلب على الإنسان الويل والثبور أكثر مما وفر له الخير الحبور.
الفلسفات الحديثة
وكذلك خذوا الفلسفات الحديثة. أنها تقدم نظرياتها ومقوماتها معززة بالدعاوى العقلية الطويلة العريضة في سياج جميل من المصطلحات وروعة المنطق تتخبط من جهة النتائج في نفس الضلالات التي تاهت فيها البشرية في القرون القديمة.
ويتصور الفلاسفة أن الإنسان في أصله وتكوينه حيوان، ومن الحيوان تطـور تدريجيا إلى الحالة الراهنة، فالإنسان الذي يتصور أن آباءه وأجداده فيما مضى كانوا قرودا أو غوريلا وبفضل مبدأ التطـور والنشوء قد بلغ اليوم حالة الإنسانية فإنه لا جرم يبحث عن نظم حياته في حياة الحيوانات.
ولذلك فإن علم الاجتماع عندنا يوجه اليوم في نفس الجهة، حيث يجري القياس على حياة الحيوانات لتقرير حقيقة فطرة الإنسان، مع أن فطرة الإنسان بينها وبين فطرة الحيوان ما بين السماء والأرض.
وبينما يقول الإسلام للإنسان بأن الله تعالى جعله خليفته في الأرض تأتى الفلسفة الحديثة والعلوم الحديثة تخبران الإنسان بأنك تطورت من الحيوان إلى الإنسان، وليس هناك فرق أساسي بينك وبين الحيوان سوى أنك مستقيم القامة وتكونت يداك ورجلاك بشكل سهل عليك القيام بالأعمال التي لا يستطيع الحيوان القيام بها.
هذه هي الفكرة الحيوانية التي بموجبها أصبحت نظرة الإنسان إلى الأشياء تأخذ نفس الوجهة التي كان تقدم بها مزدك قبل ألف وخمسمائة سنة، وكما أنه جعل المرأة والمال والأرض مشاعة بين البشر كذلك تروج اليوم أفكار تنادي بجعلهـا مشاعة بين البشر.
إن الفكرة التي قدمها مزدك عن المرأة لكم أن تروها بقضهـا وقضيضها مطبقة في أوروبا وأمريكا اليوم.
بل الذين يحسبون أنفسهم من سـلالات الحيوان يكرسون الاختلاط الجنسـي كالحيوانات على مرأى ومسمع من الناس.
إذ إنهم يرون أنه لا داعي لإقامة حدود الحلال والحرام عند الاتصال الجنسي بين الرجل والمرأة، سواء كان الرجل ابنا والمرأة أما، أو كان الرجل أخا والمرأة أختا أو كان الرجل أبا والمرأة بنتا، ولذلك فإن الممارسة الجنسية بين الأخ والأخت، وبين العم وابنة الأخ، وبين الخال وابنة الأخت أصبحت تنتشر بكثرة كاثرة، ولا يندر حادث وقوع الممارسة الجنسية بين الأب وبنته، وتفاقم الأمر إلى حد أن قدسية الآصرة بين الأم وابنها أوشكت على الانتهاء.
إذن قد انحدر بالإنسان إلى مستوى من الذل والانحطاط لم يكن للإنسان الكريم أن يتصور ذلك، ومن المؤسف أن في بلادنا أيضا بدأت العناصر التي تريد استيراد نفس الحضارة النجسة ترفع رأسها كما تبذل المحاولات في تعزيز نفس الاتجاهات وإبداع نفس الأساليب للتفكير، وصارت الانحرافات الخلقية تأخذ نفس الاتجاه الذي نستطيع أن نرى نقطته النهائية في مجتمعات أوروبا وأمريكا، وإذا لم تتخذ التدابير لوقف هذه الحركة ولتغيير هذا التصور الخلقي الغريب فليس من المستبعد أن نرى قريبا في بلادنا أيضا أناسا مطبوعين بطباع الحيوانية يمارسون نفس المخازي التي تمارسها أوروبا وأمريكا.
الاشتراكية والشيوعية
هذا، مما يقال به اليوم بمنتهى التفاخر أن فلسفة الشيوعية والاشتراكية، التي عرضها ماركس وروجها لينين فلسفة تقدمية، وكل شيء يخالفها رجعي، ولكن أميطوا اللثام عن وجه هذه الفلسفة بوضوح أن التقدمية التي جاءت بها تلك الفلسفة هي في الحقيقة تستكمل ما فرضته القيصرية والرأسمالية والإقطاعية من جعل الإنسان عبدا ذلولا مهانا للإنسان، فوسائل الإنتاج التي كانت موزعة بين كثير من الرأسماليين وأصحاب المصانع وملاك الأراضي، ووسائل التوزيع التي كانت مقسمة في أيدي الكثير من الناس من الطبقات المختلفة، تسيطر عليها في النظام الشيوعي حفنة قليلة من الأفراد وبيد نفس الأفراد تتركز جميع السلطات التي كان القياصرة يسيطرون عليها من الجيش والبوليس والقضاء والسجن والتشريع ولا يقدر أحد إزاءهم أن يتفكر تفكيرا معاكسا فضلا من أن يجهر به.
وإذا اشتموا من شخص ولو إلى حد الشبهة الضئيلة أنه يخالـف أفكارهم يقبض عليه، ويزج به في دور التعذيب التابعة للبوليس السياسي، وتصب عليه أقسى ألوان التعذيب والتنكيل يعجز اللسان عن بيانها، تنزع منه اعترافات باقتراف أقبح الجرائم وأبشعها، ثم ترفع قضيته إلى المهازل التي تسمى المحاكم لتدينه بأعنف العقوبات وأفظعها.
وإذا كان ذلك المسكين من رجال العلـم والرأي يوضع في مستشفى الأمراض العقلية، إذ إن قادة النظام الشيوعي يؤمنون بنظرية تقول: إن الذي يكون أسلوب تفكيره متباينا لأسلوب تفكيره ليس إلا مجنونا.
إن هذا النظام سواء وصف بالنظام الاشتراكي أو النظـام الشيوعي لا مكان فيه لأي نوع من الحرية البشرية، وليس من فارق بين الاشتراكية والشيوعية سوى أن إحداهما، وهـي الشيوعية تقيم نظامها قسرا بينما الأخرى تزعم أنها تختار لذلك طريق الديمقراطية، وكلتاهما تلتقي على هدف بعينه. وهو تركيز وسائل الإنتاج بيـد الحكومة ثم هي التي تتولى توزيع ضرورات الحياة.
وليس المراد من الحكومة طبعا الكتاب في المكاتب أو الجنود في مراكز الشرطة إنما الحكومة تتمثل في أشخاص يسيطرون على مراكز القيادة، ويضعون مخططات للحياة الاجتماعية كلها ثم يستخدمون لتنفيذ مخططاتهم صلاحيات الحكم. وهؤلاء الأشخاص سواء تولوا أزمة الأمور عن طريق الثورة الدموية أو عن طريق الكفاح الديمقراطي تتحقق الدكتاتورية تلقائيا بدون ما ريب، وهذه الدكتاتورية هي التي لا يوجد لها مثيل في تاريخ البشرية، إن الشيطان أوجد أعتى أنواع الفراعنة، جاء بأقبح أقسام النماردة في العالم، إلا أن الفراعنة والنماردة الذين يحكمون البلدان الاشتراكية في عصرنا الحاضر لا يشق غبارهم لا الأولون ولا الآخرون من الفراعنة والنماردة، ومن سوء حظنا للغاية أن هذا النظام المجرب الذي تكشَّف للعيان ما يضمره من فتن كقطع الليل تبذل المحاولات لتنفيذه في بلدنا الذي أسس على الإسلام.
ومن الطريف أن يقال للمسلمين، ذرا للرماد في عيونهم، أن هذا النظام الذي يراد تنفيذه هو اشتراكية إسلامية.
وأتساءل: هل أن هؤلاء القوم افترضوا أن سكان هذا البلد جهال أغبياء لا يستطيعون إدراك تضليلهم وخداعهم.
الدكتاتورية بلباس الديمقراطية
ثم عليكم أن تتفكروا يسيرا، قد شهد التاريخ القديم أبرز الفراعنة المتغطرسين وأشهر النماردة المتجبرين، ولا تجد أمرًا قام به الجبابرة القدامى لم يقم به الجبابرة المعاصرون فالأولون والمعاصرون من هذا الناحية يخرجون من قوس واحدة؛ ولكن الذي يلفت النظر هو أن الجبارية القديمة -إن صح هذا التعبير- كانت أمـرا مكشوفا غير ملثم، إنها تتستر بستار الديمقراطية لتخدع الجماهير بأنها تولت الحكم بإرادة الشعب وباسم الشعب، وتعمل كل ما تعمل لأجل الشعب. أما الجبارية العصرية فإنها عكس الجبارية القديمة تقوم بفرية تسميها الانتخاب.
وبشتى أنواع الدجل والتزوير والإرهاب تسيطر على أزمة الحكم، ثم تمارس دكتاتوريتها بأشنع الأساليب، ولكن باسم الديمقراطية وبذر الرماد في عيون الجماهير وبكلمة أخرى تكون الديمقراطية هي هيكل شكلي لصنم الطاغية يدخل فيه روح الدكتاتورية.
ثم أصبح فن كسب الانتخاب بطريقة قسرية مستكمل العناصر والأدوات، حيث أصبح من المستحيل أن تدع الحكومة أحدا ينجح في الانتخاب ضدها، وحقا هـذا الأسلوب رجعة قهقري إلى عصر فرعون ونمرود، ولكن التقدم الذي اختص بالعصر الحاضر دون عصر فرعون ونمرود، هو أن رئيس الجمهورية، أو رئيس الوزراء، أو قائد الشعب، أو الزعيم الأوحد، أو منقذ الشعب في العصر الحاضر يستخدم لتعميق قواعد دكتاتورية الأساليب التي لم يحلم بها أحد من الفراعنة والنماردة في أي عصر من العصور البائدة(1).
______________________________
(1) منشور بالعدد (276)، 22 ذي القعدة 1395هـ/ 25 نوفمبر 1975م.