كاتب المدونة: أشرف شعبان
ما عليه أي قوم من عقيدة أو منهج حياة أو عرف أو عادة أو خلافهم من الأمور، يتعايشونها في حياتهم بلا تملل ولا تذمر، ويتوارثونه جيلا بعد جيل، يعتقدون أن ما هم عليه هو حق، وأي دعوة خلاف ما هم عليه، هي الباطل أو الضلال، ومن الصعب جدا والشاق عليهم تقبلها فضلا عن إتباعها، وهكذا كان كل مكذبي الرسل، كانوا على ما هم عليه من كفر أو شرك، وما يرتكبونه من موبقات وفواحش يستبيحونها أو يستحبونها، ويرفضون أي تغير لما اعتادوا عليه، بحجة إتباع ما كان عليه آباؤهم، قال تعالى (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) لقمان 21 وقال عز وجل (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) البقرة 170 أي إذا قيل لهم على لسان الرسل، اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما كان عليه آباؤنا من المعتقدات والتقاليد، ولا نترك ما وجدنهم عليه، لقول أحد كائنا من كان. ظنا منهم بأن ما كان عليه آباءهم هو الخير، وقال سبحانه وتعالى في سورة الزخرف آية 22 (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) أي إنا وجدنا آباءنا، على طريقة ومذهب ودين، وإنا على آثار آبائنا، فيما كانوا عليه، متبعون لهم، ومقتدون بهم، سائرون بدون تفكر أو تدبر أو حجة أو دليل، فهم أشبه ما يكونون بقطيع الأنعام، الذي يسير خلف قائده، دون أن يعرف إلى أي طريق يسير، وقال تعالى في سورة الأنبياء آية 53 ( قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ) وجدنا آباءنا عابدين لها، ونحن نعبدها اقتداء وتأسيا بهم، وهو رد يدل على تحجر عقول، وانطماس بصائر قائلوها، حيث قلدوا فعل آبائهم، بدون تدبر أو تفكر، ولتأكيد هذا المعنى، قال تعالى في سورة هود آية 62 (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباءنا) وقال عز وجل ( تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباءنا ) إبراهيم 10
وكثير من هؤلاء لا يعلم عن ما هو عليه، من عقيدة أو عبادة أو عرف، إلا النزر القليل ، قال تعالى في سورة الحج آية 71 (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم) ليس لهم به علم، فيما اختلقوه وائتفكوه، وإنما هو تقليد تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا حجة، ليس لهم إلا تقليد، ما ولدوا عليه، وتربوا فيه، وترعرعوا داخله، والإيمان به، بل والاستماتة في الدفاع عنه إذ لزم الأمر، كما يلاحظ أن القليل منهم كما ينتابهم الشك في أي دعوة جديدة، ينتابهم ويساورهم نفس الشك فيما هم عليه، ومع ذلك فهم على منوال آبائهم سائرون، أما بحكم العادة والتراث، أو خوفا من الأهل والمجتمع.
فسيدنا إبراهيم، وجد قومه يعبدون الأصنام ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ) سورة الأنعام 74 ومع علمهم بأن هذه الأصنام حجر أصم لا تنطق ولا تنفع ولا تضر، ومع ذلك اتخذوها إلهة ( قالوا أأنت فعلت هذا بإلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ) الأنبياء 62 -65 ومع ذلك كان استغرابهم واندهاشهم من دعوة إبراهيم لهم ( قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ) سورة الأنبياء آية 55 ( قال أراغب عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا ) سورة مريم آية 46 (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون) الزخرف 26
وسيدنا نوح بعثه الله تعالى إلى قوم يعبدون الأصنام، فدعاهم إلى توحيد الله، ونبذ عبادة الأصنام، ولكنهم رفضوا دعوته ووصفوه بالضلال ( قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ) الأعراف 60 وأصروا على كفرهم وشركهم، وقد مكث فيهم ألف عام إلا خمسين، قال تعالى ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عام ) العنكبوت 14 وما إصرارهم على ما هم عليه، طوال هذه المدة، إلا لأسباب عدة منها لما اعتادوا عليه في تقليد آبائهم وعند بدء الطوفان طلب سيدنا نوح من ابنه أن يأتي معه للنجاة، ولكن الابن أصر على ما هو عليه، وظل متمسكا به رغم رؤيته الطوفان أمام عينه، وقال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ظنا منه في حماية الجبل له ( ونادي نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سأوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) هود 42 -43 كما أرسل الله سبحانه سيدنا هودا إلى قومه يدعوهم إلى عبادة الله الواحد الصمد ونبذ عبادة غيره من الأوثان والآلهة، فاستخف به قومه وسخروا منه واستمروا في طغيانهم وفي تمسكهم بما هم عليه ( ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ) هود 52 ( قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين ) الأعراف 66.
ولا يختلف الأمر كذلك مع قوم صالح ( قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) هود 62 لقد كنت يا صالح فينا مرجوا، وهذا اعترافا منهم بعلو مكانته عندهم، قبل هذا، أي قبل دعوته هذه لما جاءهم بما يخالف أهواءهم الفاسدة، فكانت دعوته السبب في اختلاف ظنهم فيه، والاستفهام في قولهم أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا للتعجب والإنكار، أتنهانا أن نترك ما توارثنه عن آبائنا واعتادنا عليه، بل إننا شاكون فيما دعوتنا إليه. وفرعون قالها صراحة لقومه، تحريضا منه على موسى ( إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ) غافر36 وهذا ما كان عليه الملأ من قوم فرعون واتفاقهم مع منطق فرعون (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك) الأعراف 127.
فإذا كان اتهامهم لموسى بالفساد، إذن ما كانوا هم عليه هو الصلاح ظنا منهم. كما تكرر في القرآن الكريم ذكر قتل بني إسرائيل للأنبياء بغير حق كما في قوله تعالى (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق) آل عمران 112 ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) البقرة 87 بما لا تهوى أنفسهم، لأنهم يستحبون ما هوت أنفسهم، فمن يأتي بما خالف هوى أنفسهم، يعرضونه للقتل، فهوى أنفسهم هو الحق بعينه بالنسبة لهم، وما يخالفه فهو على العكس منه. وقال مشركون من قريش إن كان هذا القرآن من عند الله حقا لكان نزل على رجل عظيم من مكة أو الطائف، بدلا من إنزاله على محمد الفقير اليتيم ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ) الزخرف 31 -32 بل وكبراء كل قوم وأغنيائهم كانوا يقولون: لو كان الإيمان خيرا ما سبقونا إليه هؤلاء الفقراء والعبيد والضعفاء فنحن أهل السبق، ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير، لو كان ما صاروا إليه خيرا ( لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) الأحقاف 11 ويقولون منكرين أهؤلاء الفقراء، تفضل الله عليهم بالهداية من بيننا؟ (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) الأنعام 53
والاتباع لفظ يطلق في اللغة على من لحق غيره، واقتفى أثره، ولذلك يطلق على من هم بعد الصحابة، بالتابعين لأنهم اقتفوا أثر من سبقهم، وساروا على طريقتهم، والإتباع يجب أن يكون على بصيرة ومعرفة، بما يتم إتباعه، قال الشرباصي: والمعنى الأخلاقي للإتباع هو أن يميز الإنسان الخبيث من الطيب، وأن يتبين طريقه على بصيرة، وأن يعرف من تقدمه على طريق الحق والصدق، فيتخذه أسوة وقدوة، فيمضي اللاحق على سنن السابق. وقد فرق البعض بين الإتباع والتقليد، فأطلق التقليد على الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، إما الإتباع فهو ما ثبت عليه حجة.
ولذلك فخير إتباع ينبغي أن يتحلى به المرء ويلتزمه ويحرص عليه، إتباع هدي الله، والتزام صراطه المستقيم، وإتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي، لأن ذلك طريق الأمان والاطمئنان، قال تعالى ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) الأعراف 3 وقال عز وجل ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فأمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ) الأعراف 150 وقال سبحانه وتعالى ( فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) البقرة 38 وشر إتباع يجب أن يتجنبه المرء ويبتعد عنه، هو كل ما يضل عن سبيل الله، سواء كان هذا ميراثا أو من عادات الآباء والأجداد، أو إتباع الهوى أو الظن أو إتباع والانصياع لإبليس، وأخير إتباع كل متكبر متأله. وفي إتباع الهوى، قال تعالى ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ) القصص 50 وفي إتباع الظن، قال عز وجل في سورة يونس آية 36 ( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ) وقال ( إن يتبعون إلا الظن ) يونس 66 وفي إتباع إبليس، قال سبحانه وتعالى ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ) سبأ 30، وقال ( ولا تتبعوا خطوت الشيطان ) البقرة 168. وفي اتباع كل متكبر مستبد، كان فرعون أكبر مثال لذلك، قال تعالى ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد ) هود 97
والناس إذا اعتادوا، على سلوك معين، في أمر من أمور حياتهم، يعتقدون أن هذا السلوك، ملزم، وواجب الإتباع والتطبيق، حيث ينطبع في أذهانهم، كأصل أصيل في حياتهم، وهكذا إذا اعتادوا رؤية المنكر استأنسوه وألفوه، ومازالوا على حالهم، حتى يصبح من مسلمات أمور حياتهم، يستحبونه ويأنفون غيره ولو معروفا.
قال تعالى ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) الأعراف 28 والفاحشة كل قبيح يتنافى مع تعاليم الشريعة، أنهم يرتكبون القبائح التي نهى الله عنها، ويحتجون بأنهم قد وجدوا آباءهم كذلك يفعلون. فما كان عليه قوم لوط من فاحشة، إلا لاستحباب في نفوسهم، والدعوة لمنعهم عن ذلك، قوبلت منهم بالرفض والممانعة، قال تعالى ( إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها أحد من العالمين ) العنكبوت 28. وقال عز وجل ( إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء ) الأعراف 81 وقال سبحانه وتعالى ( أتأتون الذكران من العالمين ) الشعراء 165 ولما أرشدهم لوط إلى ما تدعو إليه الفطرة السليمة فقال لهم، كما جاءت الآية 71 في سورة الحجر ( قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين ) فكان ردهم عليه، كما بينت الآية 79 من سورة هود ( قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ) استحبوا ما هم عليه، ورفضوا ما جبلت عليه البشرية، بل وتهديدهم لسيدنا لوط، بقولهم له ( قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين ) الشعراء 167 وقال تعالى في سورة الأعراف آية 82 ( أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ).
وقوم شعيب كانوا ينقضون الكيل والميزان، ويبخسون الناس أشياءهم، وعندما دعاهم شعيب ( فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن وتبغونها عوجا ) الأعراف 85 -86 قالوا ( يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) هود 87 بل قاموا بتهديده ومن آمن معه ( لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ) الأعراف 90 ( لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معكم من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ) الأعراف 88 فالبعض بداية يستحبون ما هم عليه، لما فيه من لذة ومتعة، أو لتحقيق منافع مادية، ثم يعتادون عليه ويدمنونه، وهذا ما نلمسه أيضا في واقعنا المعاصر من أهل الملل المختلفة، وأصحاب الأفكار اللادينية والإلحادية، وأنصار الفوضى الجنسية والمثلية، ومن يغشون الناس في معاملاتهم ويبخسونهم حقهم.
هكذا كان ميراث الآباء والأجداد والسلف عموما، منهج لحياة كثير من الناس، وسبب في ما هو عليه، من معتقدات ومبادئ، وهذا الميراث عبر العقود الطويلة سبب، في إيمانهم بأن ما هم عليه هو الحق، وما دون ذلك هو الباطل، والبعض ممن يقلعون عن ما كانوا عليه من عادات، يشدهم الحنين إليها، وكلا حسب إرادته وقوة عزيمته، أما ينتكس على عقبيه أو يحتفظ بها كذكرى، ليقارن ما كان عليه بما صار إليه.