مما امتاز به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أنهم كانوا يعرفون ما ينبغي لهم من مهام وواجبات، فيسعى أحدُهم إليها مقبلاً بكلّيته، ثم يعكف عليها ويختصّ بفقهها، وقد كان الصحابي عقبة بن عامر الجهني ممن فقه ذلك، وقد كان من خيرةِ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أمير مجاهد من قادة الفتوح المعدودين، كان من الرماة المهرة، ومن فقهاء الإعداد وخبراء التدريب الجهادي، وقد اختص برواية أغلب الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الرمي والحث عليه، ولم يترك الرمي والتمرن عليه منذ سماعه تلك الأحاديث حتى وفاته.
وسنتوقف وقفات موجزة مع بعض الأحاديث التي رواها هذا الصحابي الجليل، أو رويت عنه:
فقد أخرج الترمذي: عن عقبة بن عامر، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)، قال: «ألا إنَّ القُوَّةَ الرَّمي -ثلاث مرَّاتٍ- ألا إنَّ الله سيَفتَحُ لكم الأرضَ، وَسَتُكْفَوْنَ المُؤْنَةَ، فلا يعجِزَنَّ أَحَدُكُم أن يَلْهُوَ بِأَسْهُمِه»(1).
وأخرج مسلم، أن فُقَيْماً اللخمي، قال لعقبة بن عامر: تختلف بين هذين الغرضين، وأنت كبير يشق عليك، قال عقبة: لولا كلام سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعانيه، قال الحارث: فقلت لابن شماسة: وما ذاك؟ قال: إنه قال: «من علِم الرمي، ثم تركه، فليس منا» أو «قد عصى»(2).
الوقفة الأولى: الرمي رأس أنواع القوة:
في قوله صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْي»؛ المقصود بالقوة: التقوّي بما يُحتاج إليه من سائر آلات الحرب، إلا أنه لما كان الرَّمي أنكأها في العدو، خصه بالذكر وأكدّه ثلاثًا، فهو رأس أنواع القوة وأنفعها؛ لأن النكاية بالعدو بكل ما يُرمى عن بُعد لا تشترط فيها الشجاعة، فيرمي الشجاع وغيره، ولعظم تأثيره فقد يرمي في رأس الكتيبة فيُهزم من خلفه، ولبعد الرامي عن الخطر، وغيرها من الفوائد.
الوقفة الثانية: الإعداد واجب في كل وقت وحين:
في قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنَّ الله سيَفتَحُ لكم الأرضَ، وَسَتُكْفَوْنَ المؤْنَةَ، فلا يعجِزَنَّ أَحَدُكُم أن يَلْهُوَ بِأَسْهُمِه»؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بأن الله سيفتح لكم الروم وغيرهم عن قريب، وهم رماة، ويكفيكم الله تعالى بواسطة الرمي شرَّهم، فعليكم أن تهتموا بشأن النضال وتمرنوا فيه، حتى إذا حاربتم الروم وغيرهم تكونوا متمكنين منه، ثم إذا دفع الله عنكم شر الروم، فلا تتركوا الرمي وتعلمَه، فإن الرمي والاستمرار في الإعداد والتمرن ومعاهدة الجسم مما يُحتاج إليه أبداً، وفيه دلالة على وجوب الإعداد في كل وقت وحين، وأنه لا يُعفى منه أحد من المكلفين القادرين، وقد كان عقبة بن عامر مثالاً حياً للمداومة والاستمرار على الرمي والإعداد دونما كلل أو ملل، حتى بعدما صار شيخاً كبيراً كما قال له فُقَيمٌ اللخمي.
الوقفة الثالثة: في استحباب عقد المسابقات واللهو في الرمي:
قوله: «أن يَلْهُوَ بِأَسْهُمِه»؛ أخرجه مخرج اللهو إمالة للرغبات إلى تعلم الرمي وإلى المسابقة في الترامي؛ لأن النفوس مجبولة على ميلها إلى اللهو، وقد أخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان»، قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لكم لا ترمون؟»، قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارموا فأنا معكم كلكم»(3)، وفيه استحباب المسابقة في الرمي بين الفرق، فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على مسابقتهم تلك وشاركهم فيها، بل إن الأصل في مسابقات المسلمين اليوم أن تكون جميعاً من قبيل الإعداد والاستعداد.
الوقفة الرابعة: النهي عن ترك الإعداد أو التقصير فيه:
قوله: «من علم الرمي، ثم تركه، فليس منا»؛ أي: ليس بمتصل منا ومعدود في زمرتنا، كأنه رأى النقص فيه والخلل، وكل ذلك كفران لتلك النعمة العظيمة، كما ورد في رواية: «ومن ترك الرَّمْيَ بَعْدَ مَا عُلِّمَهُ رَغْبَةً عنه فإنَّها نِعْمةٌ تركها»، أو قال: «كفرها»(4)؛ والتعبير عنه بالعلم، ثم الوعيد على تركه، يدل على أنه ليس لهواً حقيقة، وإنما هو لهو مقصودٌ في النفعُ، وفيه المبالغة على فضيلته وكونه مهمًّا في الدين ومشابهًا نسيان القرآن بعد تعلمه كما جاء في حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلّم.
الوقفة الخامسة: برنامج الرمي اليومي وفقه الاحتساب في الإعداد:
كان لعُقبة بن عامر برنامج يومي من الرمي والتمرين، وكان يعلّم طلابه من التابعين الرمي ودوام الإعداد مع حرصه على زرع فقه الاحتساب والإخلاص لله والصدق معه سبحانه، وذلك من أجل ألا يملَّ الواحد منهم ولا يكسل في أداء هذه العبادة العظيمة؛ عبادة الإعداد والاستعداد، ونروي في هذا الصدد قصتين من قصص ورد الرمي اليومي لعقبة بن عامر، كل قصة منهما مع أحد التابعين:
فقد أخرج أحمد قال: كان عقبة بن عامرٍ الجُهَنِيُّ يخرُج فيَرمي كلَّ يومٍ وَيَسْتَتْبِعُهُ عبدالله بن زيد الأزرق، فكأنَّه كاد أن يَمَلَّ، فقال له: ألا أخبِرك؟ سمعتُ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ بالسَّهم الواحد ثلاثة نفَرٍ الجَنَّة، صانعَه الَّذي يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الخير، والَّذي يُجَهِّزُ به فِي سبيل الله»، وقال: «ارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا»، قال: فتُوُفِّي عُقْبَةُ وله بَضْعَةٌ وَسَبْعُونَ قَوْسًا، مَعَ كُلِّ قَوْسٍ قَرْنٌ وَنَبْلٌ، فَأَوْصى بِهِنَّ في سبيل الله(5).
وعن خالد بن زيد قال: كنت رجلًا راميًا أرامي عقبة بن عامر، فمر بي ذات يوم فقال: يا خالد، اخرج بنا نرمي؛ فأبطأت عليه، فقال: يا خالد، تعال أحدثك ما حدثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إن اللَّه يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه الذي احتسب في صنعته الخير، ومُنْبلَه، والرامي، ارموا واركبوا وإن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا..»(6).
فيا شباب الإسلام، معركة تحرير المسجد الأقصى انطلقت، فليختر كل منكم طريقه في المشاركة فيها، وليبدأ بالإعداد وليضع خطته في ذلك، ولننتقل إلى العمل ولنجعل لنا ورداً يومياً فيما نتقن من الإعداد.
_________________
(1) رواه الترمذي، الجامع الكبير (3083).
(2) صحيح مسلم (1919).
(3) صحيح البخاري (2743).
(4) سنن سعيد بن منصور (2450).
(5) المسند، ج4/ 148.
(6) البيهقي، السنن الكبرى (10/ 13).