«إلى تكبيرة الفتح على جبل طارق، وإلى صهلة الوداع على باب الحمراء، إلى سيف ابن تاشفين، وجناحي عباس، وموشَّحات الخطيب، إلى الغيث الذي همى والكأس الذي هوى والأُنس مع حُلو اللمى، إلى أندلس الجمال أهدي هذا الكتاب»، بهذه الكلمات بدأ الشاعر الفلسطيني محمد صالح ديوانه الذي أصدره بعمر العشرين قبل شهور من حرب الإبادة التي شنت على قطاع غزة.
قلم مجاهد
محمد صالح ابن مدينة جباليا التي قدمت الأبطال والشهداء، قدم له ديوانه الكاتب والشاعر الأردني أيمن العتوم التي كانت هذه إحدى أمنيات محمد، فكتب عنه في التقديم: فشاعرنا رغم شبابه وصغر سنِّه، فإنَّنا يُمكن أن نطلق عليه صفة الشاعر، وإذا أُطلقتْ هذه الصفة على شخص دلَّتْ واستشرفتْ بمستقبله الشعري وبصمته الواضحة.
كان توقيع الديوان يوم 27 نوفمبر 2022م، حيث احتفل بإصدار الطبعة الأولى من ديوانه «سقطت يده» مجلسُ طلاب الجامعة الإسلامية بغزَّة، والهيئةُ العامة للشباب والثقافة، في قاعة المؤتمرات بمبني كلية العلوم بالجامعة الإسلامية.
كان صالح يملك موهبة كتابة الشعر وأبدع فيه إبداعًا كبيرًا، ويتبع بكتاباته أسلوب السهل الممتنع واللين والبساطة في الألفاظ والمصطلحات، ربط بين الغزل والمقاومة، فلم يذكر المقاومة إلا وذكر الغزل، وما ذكر الغزل إلا وذكر المقاومة، وكتب أيضًا عن غزة وأحلام شبابها والقدس ويوم التحرير والأمنيات التي وأدها الاحتلال في حروبه على غزة على مدار سنوات طوال، وعن السنين العجاف التي عاشها أهل غزة في حصار مدقع وفقر مطبق.
في 9 أكتوبر؛ أي بعد يومين من شن الاحتلال لحرب الإبادة على قطاع غزة، ارتقى صالح شهيدًا، بينما كان يشق طريق أحلامه ويجهز في ديوانه الثاني ليصدره بمجرد انتهاء سطوره، وما تفاجأ منه الجميع ممن كان يتابع كتاباته ويحب حروف محمد وقصائده، أنه لم يكن شاعرًا فحسب، بل كان مقاتلًا صنديدًا، فقد رحل مقبلًا غير مدبر، مشتبكًا كما كان باسل الأعرج قدوته في حياته وهو الكاتب المشتبك الذي أثخن بعدوه مثلما فعل صالح، كما رحل شهيدًا وهو يحلم بتوقيع ديوانه الثاني في باحات «الأقصى» يوم التحرير، ليسطر بطولات من دم وحرف.
محمد صالح شاعر رسم أجمل لوحات البطولة منذ الصغر، وهو واحد من أبطال «طوفان الأقصى» الذين تركوا أثرهم الذي لا يزول، تمامًا كما أثر الأصم الذي أحب غزة وأطفالها هاشم غزال.
الأب الروحي للصم
هاشم غزال الغزي الذي ولد أصم ترك بصماته أيضًا قبل أن يرحل شهيدًا في قصف «إسرائيلي» على بيته، فقد أخذ على عاتقه أن يكون صوتًا للأطفال الأصم في غزة، داخلها وخارجها لمدة 30 عامًا، حيث شارك في مؤتمرات ليكون سفيرهم وصوتهم أمام العالم أجمع، تحدث عن قضيتهم ومعاناتهم داخل غزة المحاصرة في كل المؤسسات الدولية والإعلام العربي والأجنبي، بينما مثلهم على المسارح الدولية ونقل صوتهم.
وحين العودة إلى البدايات، فكانت بداية معاناته الحقيقية التي شعر بها غزال أنها سكينًا غرز في قلبه حين رزق بمولودته الأولى، فكانت فتاة صماء، فأراد أن يسافر خارج غزة لأنه لم يجد مكانًا لها يحتوي صدمتها في التعامل مع المجتمع، ولا مدرسة متخصصة لتدريس الصم، ولأنه شعر بمعاناة هذه الفئة، قرر أن يبقى في غزة ويكون سندهم وصوتهم.
أدخل غزال ابنته في مدرسة متخصصة للأطفال الناشئة الصم كي يدمجها مع المجتمع، ومع مرور السنين أنجب 9 أطفال، 6 منهم من فئة الصم و3 ناطقون.
في بدايات حياته أنشأت له أمه منجرة صغيرة يعتاش منها، وزوجته بفتاة غزية ناطقة صبرت عليه وتعلمت اللغة الخاصة به، وأصبحت صوته والمترجمة بينه وبين المجتمع، حيث علمتها والدته لغته كي تكون خليفتها في الوصل بينه وبين الناس.
غرس في نفوس أطفاله والأطفال الصم جميعهم أن لغة الإشارة ليس شيئًا مخجلًا، بل هي لغة يتميزون بها عن باقي أبناء جيلهم، فأعطاهم ذلك ثقة في نفوسهم بين بعضهم بعضاً، وبينهم وبين عائلاتهم والمجتمع.
بعد سنوات طويلة، أنشأ غزال منجرته الصغيرة في جمعية أطفالنا للصم فكان مدربًا للأطفال فيها على الأعمال اليدوية الحرفية، ونفذ كثيرًا من البرامج التدريبية لتأهيل العاملين فيها، وما كان يسعده أن ابنته التي كانت سببًا لأن يكون صوتًا لهذه الفئة المجتمعية أصبحت معلمة للصم في هذه الجمعية.
داخل غزة كان غزال ينمي مواهب الصم ووضع لهم قاموسًا للغتهم الخاصة، كما أسس جمعية المستقبل للصم الكبار.
تملك الحزن قلبه وقلب عائلته حين قصف الاحتلال مقر جمعية أطفالنا للصم، وبكاها بكاء شديدًا، فقد شعر غزال أن المكان الذي احتوى الصم وطورهم ورعى إبداعهم وضم طموحاتهم قد ذهب أدراج الرياح، فهو لمدة 30 عامًا يعلم الصم الحرف اليدوية ومهنة النجارة في المنجرة الصغيرة التي أنشأها داخل الجمعية.
وبعد شهور من قصف الجمعية، التي كان يعدها غزال وجميع الصم في غزة أنها بيتهم الثاني، قصف الاحتلال بيته ليلًا وهم نيام ليرتقي شهيدًا هو وزوجته التي كان لها باع كبير في مساعدة الصم بغزة، تاركًا خلفه بناته الجريحات إثر القصف، ليقتل الاحتلال أحلام أشخاص كثر من فئة الصم بغزة، الذين كانوا يعدون غزالاً سندًا لهم.
أطفال غزة العباقرة
عوني الدوس أيضًا طفل من أطفال البلاد السليبة التي حرمه الاحتلال أن يحقق حلمه حين أنشأ قناته على «يوتيوب»، فقد قال في الفيديو الأول: «اسمحوا لي أن أعرفكم بنفسي، أنا طفل فلسطيني من غزة، عمري 12 عامًا، وهدف هذه القناة هو الوصول إلى 100 ألف مشترك، أو 500 ألف، أو مليون مشترك»، حيث كانت قناته خاصة بصناعة الفيديوهات القصيرة، ومعروفًا بحب الحواسيب والألعاب الإلكترونية، ويحلم أن يكون «يوتيوبر» مشهورًا لأجل غزة.
المهندس عوني، كما كان يناديه المعلمون في مدرسته، وأسموه أيضًا «النابغة» لشدة ذكائه، حيث كان طالبًا في مدرسة النخال بغزة، وكرمته إدارتها لأنه تميز في صناعة بطارية لشحن جوال، وأسموه بالعالم الغزاوي عوني، عدا عن أنه كان يلقي الإذاعة المدرسية بطلاقة وفصاحة لسان.
وفي صباح 7 أكتوبر، شن الاحتلال عدوانًا شرسًا لشعب كان يرنو إلى العودة إلى البلاد المسلوبة منهم والقدس السليب، ووضع في بنك أهدافه الأطفال الذين كانوا يحلمون بلعبة وأرجوحة يوم العيد ويتمنون أن يقضوا حياتهم بسلام وأمان كما باقي أطفال العالم، فقد كان الدوس من أول ضحايا حرب الإبادة والتطهير العرقي بحق أهل غزة.
فقد قصف المحتل الغاشم بيته في أول ساعات العدوان، وارتقى هو وعائلته وبقوا تحت الأنقاض، لتدفن معه أحلامه أن يكون المهندس أو العالم أو النابغة الفلسطيني، وأصبح «الشهيد عوني الدوس»، فقد تحقق حلمه أن يشاهد قناته مليون شخص في العالم، إلا أنه تحقق بعد رحيله كما كثير من أحلام الأطفال الفلسطينيين المسلوبة.
وعلى درب التحرير والنضال الفلسطيني، يرحل كثير من الأبطال، نسطر في كل مقال سيرة بعض منهم، ليكون في مجلة «المجتمع» الكويتية توثيق لهم في طريق إبداعهم ورحيلهم.