إن الذين يرفضون الغيب من الملاحدة والعلمانيين، لا يفرّقون بينه كبطانة للكون والعالم والإنسان، كبعد آخر مؤكد للوجود، بل كقاعدة لهذا الوجود، في أسبابه ومعطياته ونتائجه وغاياته النهائية، وكعلم يقيني مطلق خاص بالذات الإلهية، وبين الرجم بالغيب، أي الموقف المتخبط، الضال، الذي ينطوي على قبول النتائج دون أسبابها، والغايات دون مقدماتها، واعتماد الأساليب الملتوية النقيضة – ابتداء – للعلم، والمنهج، والمنطق، والتجريب.فيما يقودهم في كثير من الأحيان إلى الضرب على غير هدىً في تحليل الظواهر والأشياء، والوصول إلى استنتاجات لا تقوم على أي أساس من العلم اليقيني الصحيح.
والقرآن الكريم يهاجم بصراحة هذا الأسلوب الملتوي، قبل وبعد أن يرفضه أنعام القرنين الأخيرين من الملاحدة والعلمانيين وتجار المبادئ والأفكار المزيفة (وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ) (الكهف:22)، وبالتالي فهو يرفض كل ما يتمخض عن «الرجم بالغيب» من نتائج ومعطيات، ومن مذاهب ومبادئ وعقائد وضعية اتهمها الخصوم بأنها معلّقة في سماء الأحلام، غير ممكنة التطبيق على أرض الواقع، بسبب من قيامها على الظنون والأوهام والتخمينات الخاطئة، والأحلام، والمثاليات.
وكلنا نذكر التهمة التي وصم بها مهندسو الماديتين الديالكتيكية والتاريخية، فلسفة «هيجل» عندما أطلقوا عليها لقب «الفلسفة المثالية» التي تمشي على رأسها، أي تحاول التعامل مع الظواهر والأشياء بشكل معكوس، واستبدالها بالواقعية الاشتراكية التي تمشي على بطنها بحثاً عن لقمة العيش، وكأن الحياة لا تتجاوز إحدى اثنتين: العقل أو المعدة! كما أطلقوا على الاشتراكيات التي لم تسلم قيادها لهم اسم «الاشتراكيات الطوباوية»؛ أي المثالية التي لا تستطيع أن تنزل إلى أرض الواقع.. وهاجموا الغيبيات وحاولوا إلغاءها نهائياً من القواميس.
وثمة فرق كبير شاسع بين «الغيب»، و«الغيبية»، وفق هذه الرؤية الضبابية التي لا رصيد لها في عالم الواقع، وبين الغيب الذي يعد قاعدة التأسيس الإيماني في هذا العالم (الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {3}) (البقرة):
ذلك أن الله سبحانه وتعالى الذي لا تدركه الأبصار هو من الغيب، وظاهرة النبوّة التي تتلقى التعاليم عن الله سبحانه وتعالى عبر الكتب المنزلة من السماء هي من الغيب.. والجنة والنار هما من الغيب.. والملائكة والجان والشياطين هم من عالم الغيب.. والقدر خيره وشرّه هو من الغيب.. الخ… إلخ، بل إنه حتى الظواهر العلمية كالطاقة والحركة والضوء والجاذبية هي في ماهياتها وليس في ظواهرها من الغيب.
ولقد وردت كلمة الغيب بهذه الدلالات فيما يزيد عن خمسين موقعاً في كتاب الله، وكلها تؤكد المفاهيم نفسها التي تتعارض ابتداء مع ما ذهب إليه الغربيون وأذنابهم في تفسيرهم للغيب.
ولكن إذا كان القرآن الكريم قد بنى التصوّر الديني على أساس الغيب، باعتباره المصدر اليقيني للمعرفة، فإنه أكد – في الوقت نفسه – ضرورة وأهمية «التجريب»، واعتماد «الحواس»، وتعميق صلة «العقل» بما حوله في حقول النفس والطبيعة والعالم والحياة لاكتشافها وتسخيرها لخدمة الحضارة البشرية ورقيها، وتحقيق فكرة «استخلاف» الإنسان على الأرض من أجل أداء دوره الحضاري فيها، ونحن نجد هذه «المسؤولية» الملقاة على عاتق الحواس والعقل في الآية (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً {36}) (الإسراء)، وهناك ما يزيد على خمسين وسبعمائة آية – على وجه التقريب – دعت المسلمين إلى ضرورة اعتماد الطاقات الحسيّة والعقلية والتجريبية لاكتشاف قوانين الطبيعة والحياة وتسخيرها لخدمة الإنسان، فيما قاد المسلمين إلى اكتشاف منهج البحث الحسّي التجريبي الذي تدين له حضارة الغرب المعاصرة بالكثير الكثير فيما يؤكده كبار مؤرخي العلم من الغربيين أنفسهم من مثل «الدومييلي» الفرنسي، و«جورج سارتون» الأمريكي.
إن تأكيد القرآن الكريم على «الإيمان بالغيب» لم يمنعه من التأكيد على التجريب والاختبار والنشاط العقلي والممارسة العملية.. بل على العكس، يوازيه ويعتمده في تعميق الإيمان بالغيب كتفسير يقيني للوجود الكوني والبشري على السواء، بما فيه من دقة وضبط وتوافق ونظام.. يؤكد هذا أن ما قدّمه القرآن الكريم حول بعض القوانين والسُّنن الكونية من معطيات «في حقول الحياة والطبيعة والفلك.. إلخ»، جاءت الكشوف العلمية – أخيراً – لكي تعززها وتوضح أبعادها التي خفيت على أفهام أجيال كثيرة في الماضي، وهذا هو مصداق الآية الكريمة (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {53}) (فصلت).