الأدب الحسن لأولادنا يتعرض اليوم لهجمات كثيرة وشرسة ومؤثرة تقلل من فاعليته، وتشارك معنا – رغماً عنا – في تأديبهم وتربيتهم
الأدب الحسن يبدأ مع الآباء منذ أن كانوا صغاراً، ويمتد معهم بعد أن صاروا آباء، ويلازمهم في طور التربية لأولادهم، ثم مع أحفادهم، وهكذا فهو سلسلة متصلة الحلقات من جيل الأجداد والآباء والأحفاد والأبناء.. فقد قال رسول الله “صلى الله عليه وسلم”: «ما نحل والد ولده، أفضل من أدب حسن» (الجامع الصغير، صححه السيوطي).
ولا أحد ينكر ما للأدب الحسن من أهمية وفضل، على المستوى الفردي والجماعي، وعلى بناء الأفراد والأسر والمجتمعات، ولا شك أن دور الآباء والمربين في هذا الجانب كبير، ولا شك أيضاً أن فاقد الشيء لا يعطيه، لذا فإن الأدب الحسن لا يختص بالأولاد فقط.
والأدب الحسن لأولادنا يتعرض اليوم لهجمات كثيرة وشرسة ومؤثرة تقلل من فاعليته، وتشارك معنا – رغماً عنا – في تأديبهم وتربيتهم، بل وتفسد علينا بعض ما نبذله لهم من ذلك الأدب، فتمتد معاول الهدم من هنا وهناك تحاول هدم ما تم بنيانه أو تقويضه، لذا فإن على المسلمين والمربين أن يتحلوا بالوعي الكامل تجاه ما يحصل، وأن يتكاتفوا في سبيل صد تلك الهجمات، وتتوحد جهودهم في سبيل إيجاد بدائل مماثلة صالحة تبذر معهم بذور التربية الصالحة والأدب الحسن.
تعريف الأدب
والأدب في اللغة: حسن الخلق وفعل المكارم.
وقيل: هو تعلم رياضة النفس ومحاسن الأخلاق.
وقيل: الأدب يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل.
وهو استعمال ما يُحمد قولاً وفعلاً أو الأخذ أو الوقوف مع المستحسَنات أو تعظيم مَن فوقك والرفق بمَن دونك.
وقيل: الأدب ملكة تعصم مَن قامت به عما يشينه.
والأدب الذي يتسمى به الأديب من الناس سُمي أدباً؛ لأنه يأدب الناسَ إلى المحامد، وينهاهم عن المقابح.
أدَّبَه: راضَه على محاسن الأخلاق، ولقَّنه فنون الأدب، وجازاه على إساءته.
ويقال: أدَّب الدابة: روَّضها وذلَّلها، وتأدّب: تعلم الأدب.
ويقال: تأدب بأدب القرآن، أو أدب الرسول: احتذاه.
الأدب والتحديات
أولادنا اليوم يتعرضون لمؤثرات كثيرة تغير من أدبهم وسلوكهم من حيث الحسن أو القبح، وقد تكون تلك المؤثرات داخلية تتمثل في الأسرة من وَالِدَيْن وإخوة وأخوات وأقارب، وهذه لا عذر لنا فيها، حيث إن واجب الأسرة الأول ومهمتها الأساسية بذل الجهد في التربية وحسن تأديب الأولاد فيها، لكن للأسف قد يفتقد أولادنا القدوة الطيبة داخل أسرهم وبين والديهم وأهليهم، فيأمره والداه بأمر أو ينهيانه ولا يقدمان له القدوة منهما في هذا الأمر أو النهي، وهذا من أخطر آفات التربية، وإن لنا في النبي “صلى الله عليه وسلم” القدوة الحسنة، وقد رباه الله وصنعه على عينه؛ ليكون قدوة للعالمين.
قال محمد بن علي: أدّب الله محمداً “صلى الله عليه وسلم” بأحسن الآداب، فقال: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ”199″} (الأعراف)، فلما وعى قال: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(الحشر:7).
فكان خلقه القرآن، وكان قرآناً يمشي على الأرض، وكان يدعو أصحابه بالقول والعمل معاً، فصار أعظم وأحسن قدوة.
أما المؤثرات الخارجية فهي متنوعة ومنها الجار والصديق، والمدرسة والمعلم، والمسجد والشيخ، والشارع والبيئة، والمجتمع والناس، ووسائل المعلومات والاتصالات، وكل ذلك يشارك – داخل الأسرة وخارجها – في صنع هذا الأدب والتأثير عليه سلباً وإيجاباً؛ لذا فنحن جميعاً مطالبون بتربية أولادنا الأدب الحسن الذي يجعل منهم لبنات صالحة في مجتمعاتهم التي تضمهم، وفي أمتهم الواحدة التي ينتمون إليها، وقد أمرنا بذلك النبي “صلى الله عليه وسلم” فقال: «أكرِموا أولادَكم وأحسِنوا أدبَهم».
الطفولة.. والأدب الحسن
ورغم كثرة التحديات في وجه التربية، فإن الأمل لا يزال متعلقاً بالأسرة، فهي المحضن الرئيس للأولاد، وحينما نذكر الأسرة فإننا نريد أن يعود لها سالف عزها وترابطها وائتلافها وحبها، وقوتها وأثرها، وأن يكون لها دورها العظيم والعبء الأكبر في التربية والتنشئة على أدب الإسلام وأخلاقه العالية، مهما كثرت التحديات من حولها، فقد خولها الله أن تقوم بأعظم مهمة، وأن تغرس أفضل غراس وتحصد أطيب ثمار، وذلك بالأدب الحسن لأولادها، فمازالت السنون الأولى في عمر الولد والتي يقضيها غالباً في مدرسة الأسرة، هي أهم مراحل التربية واكتساب الأدب.
لذا حث النبي “صلى الله عليه وسلم” الوالدين على حسن التربية منذ الصغر، وبشرهما بأن هذا العمل صدقة جارية، وأن الولد الصالح خير استثمار لهما، فقال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له»(صححه الألباني، صحيح الترمذي)، كما رغب في الجليس الصالح، والجار الصالح، فقال: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك، أو تجد منه ريحا خبيثة»(رواه البخاري). وقال: «من سعادة المرء؛ الجارالصالح..»(صححه الألباني، صحيح الترغيب).
ورغب في اختيار الصديق الصالح فقال: «لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي»(صححه السيوطي، الجامع الصغير)، وقال: «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»(حسنه السيوطي، الجامع الصغير).
وكذا فإن اختيار البيئة الطيبة لغراس التربية يساعد ويشارك في حسن الأدب، قال تعالى “وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا” (الأعراف:58)، وفي قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأراد أن يتوب فقيل له: «انطلق إلى أرضِ كذا وكذا، فإنَّ بها أناساًَ يعبدون اللهَ فاعبُدِ اللهَ معهم ولا ترجِعْ إلى أرضِك فإنَّها أرضُ سوءٍ..»(رواه مسلم).
وغير ذلك من المؤثرات الإيجابية على الفرد والجماعة كالتعلق بالمساجد، وطلب العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك له تأثير قوي في العملية التربوية الأسرية والمجتمعية لا ينكرها أحد.
قالوا في الأدب الحسن:
أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استُجْلِب خيرُ الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانهما بمثل قلة الأدب. (ابن قيم الجوزية في مدارجه).
لا ينبل الرجل بنوع من العلم ما لم يزين عمله بالأدب. (ابن المبارك).
علم بلا أدب، كنار بلا حطب، وأدب بلا علم، كروح بلا جسم. (أبو زكريا العنبري).
الأدب نور العقل، كما أنّ النار في الظلمة نور البصر. (الأحنف).
الأدب رياسة. (محمد بن جعفر).
اطلبوا الأدب فإنّه عونٌ على المروءة، وزيادةٌ في العقل، وصاحبٌ في الغربة، وحليةٌ في المجالس (شبيب بن شبية).
الأديب من اعتصم بعزّ الأدب من ذلّة الجهل، ولم يتورط في هفوة، وكان أدبه زلفى إلى الحظوة في دنياه وأخراه. (أعرابي).
تأدبوا فإن كنتم ملوكاً سدتم، وإن كنتم أوساطاً رفعتم، وإن كنتم فقراء استغنيتم. (ابن القرِّيَّة).
ووصف أعرابيٌّ الأدب في مجلس معمر ابن سليمان، فقال: الأدب أدب الدّين، وهو داعيةٌ إلى التوفيق، وسببٌ إلى السعادة وزادٌ من التقوى، وهو أن تعلم شرائع الإسلام، وأداء الفرائض، وأن تأخذ لنفسك بحظّها من النافلة، وتزيد ذلك بصحّة النية، وإخلاص النفس، وحبّ الخير، منافساً فيه، مبغضاً للشرّ نازعاً عنه، ويكون طلبك للخير، رغبةً في ثوابه، ومجانبتك للّشِّر رهبةٌ من عقابه، فتفوز بالثواب، وتسلم من العقاب، ذلك إذا اعتزلت ركوب الموبقات، وآثرت الحسنات المنجيات.
الأدب الحسن خير ميراث؛ أفضل ما يورث الآباء الأبناء الثناء الحسن والأدب النافع والإخوان الصالحون. (ابن المقفع).
ومن أجمل ما قيل في حسن الأدب قول الشاعر:
خير ما ورث الرجال بنيهم أدب صالح وحسن الثناء
هو خير من الدنانير والأوراق في يوم شدة أو رخاء
تلك تفنى والدين والأدب الصالح لا يفنيان حتى اللقاء
إن تأدبت يا بني صغيراً كنت يوماً تعد في الكبراء
المصادر
1- «الأدب الصغير» لعبدالله بن المقفع، http://sh.rewayat2.com.
2- المكتبة الشاملة: http://www.shamela.ws.
3- الآداب الشرعية والمنح المرعية، للمقدسي، إسلام ويب www.islamweb.net.
4- الموسوعة الشاملة، www.islamport.com.
5- معاجم اللغة العربية، http://www.maajim.com.
6- الدرر السنية، الموسوعة الحديثية، www.dorar.net.