تقييم الزعماء يجب أن يخضع للظروف التي سادت في عصره، والعوامل التي أثرت على سلوكه وقراراته، ولا يجوز أن تغرينا عوامل الإحاطة ومعايير التقييم والنتائج الإيجابية أو السلبية في التحليل الأخير بالتوسع في إطلاق الحكم على الزعماء، فلم يكن عبدالناصر مسؤولاً عن أعمال سلفه الذين شوهوا ما كان ينوي إنجازه، ولكن عبدالناصر قطعاً قد أدخل الجيش في الحياة العامة خاصة المجلس العسكري الذي أنشأه بعد يونيو 1967م، ولا شك أن وجود الجيش في غير مكانه أسهم في إضعاف مؤسسات المجتمع المدني، كما أن الصورة النمطية للرئيس المدني يرأس قيادات الجيش لم تستقر، ولا تصلح تجربة “محمد مرسي” مقياساً لذلك.
من ناحية أخرى، لا يخفى أن “عبدالناصر” يزداد قدره عند الرأي العام، كلما ساءت مآلات خلفائه، فقد تمسك الرجل بكرامة الوطن، ولكنه فرط في كرامة المواطن إذا زاحمه في السلطة، كذلك لا يزال السؤال الملح يدور حول السبب الموضوعي لعدم قدرة “عبدالناصر” على ترجمة شعبيته إلى نظام ديمقراطي، حيث يرجع البعض ذلك إلى أن العقلية العسكرية وعقلية الزعيم تناقض مبادئ الديمقراطية.
من ناحية ثالثة، عمد بعض المرشحين إلى التقرب من الرأي العام والادعاء بأنهم نسخة جديدة من “جمال عبدالناصر” استجداء، واستدعاء لصورة “عبدالناصر” عند هذا الرأي العام المتغير، علماً بأن النظام السياسي في مصر لو استقام بعد “عبدالناصر” واستقرت العلاقة بين الحاكم والمحكوم بشكل صحيح، لما كان تعلق الرأي العام بـ”عبدالناصر” بهذا القدر.. يضاف إلى ذلك، أن تراجع مصر وتوحش “إسرائيل” وهوان العالم العربي يستدعي دور “عبدالناصر” في المعاملة المميزة للعرب في مصر، وتكريس همه في الصراع مع “إسرائيل” والانحياز المطلق للقضايا العربية، وهذا يضع علامة استفهام حول نسبة البعض أنفسهم إلى “عبدالناصر”، فيما عرف بالناصريين أو التيار الناصري، الذي يداعب أحلام البسطاء في العدالة الاجتماعية، وكرامة الوطن، بينما تحقيق ذلك في ظروف مصر بعد كل ما حدث يحتاج إلى معجزة وليس إلى مجرد آمال تحركها دوافع سياسية مهما كان نبلها، أو بطل صنعه الخيال وساقته الأقدار فجأة من خلف الحجب.
صورة مثالية
صورة “عبدالناصر” عند الرأي العام لا تزال مغرية للمرشحين تقرباً إلى الجماهير، والصورة هي تلك التي يرسمها الخيال استناداً إلى معلومات مصدرها عادة الإعلام بالنسبة للجمهور، وقد حرص إعلام “عبدالناصر” على تقديم صورته عند الجمهور بشكل مثالي، فهو الرجل الذي خلص مصر من فساد الملكية وتآمرها وصفقة الأسلحة الفاسدة للجيش المصري المقاتل في فلسطين، والملكية أسرة أجنبية احتلت مصر وقام “عبدالناصر” بإنهاء الوجود الأجنبي والهيمنة الأجنبية بتأميم القناة، وتمصير المصالح الأجنبية، والقضاء على تحالف القصر مع الإقطاع والاستعمار ورأس المال، وهو الذي أدخل مصر إلى العالم التقدمي اليساري ضد الإمبريالية الأمريكية، وهزم العدوان الثلاثي عام 1956م، وأنصف العمال والفلاحين.. “عبدالناصر” في الإعلام المصري هو ضحية غدر الإخوان المسلمين، ولذلك تخلص من شرهم، و”عبدالناصر” هو رمز الكبرياء المصري وبطل الوحدة العربية والقومية العربية، وهو الذي تمسك بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وجعل الجامعة العربية كعبة العروبة، والقاهرة فخر العرب في الثقافة والتعليم والطب والفنون والحضارة، وحتى في قلب الهزيمة القاسية للجيش والنظام بأكمله عام 1967م كان الإعلام لا يزال يردد حتى النفس الأخير أن القوات المظفرة اقتربت من تل أبيب، ثم أضفى الإعلام جواً من الهيبة حول تضحية القائد الذي تكاثر عليه أعداؤه بمن في ذلك الحكام العرب في معسكر الرجعية العربية، وهو كالأسد الجريح ولم يستسلم، ولكنه اعترف لشعبه بالهزيمة وقرر التنحي عن المسؤولية دون أن يعد صفوفاً تالية، بحسبانه الزعيم الأوحد، وأن الجماهير الواعية هي التي أرغمته على استكمال المسيرة، وأنها معه في السراء والضراء بعد أن أدركت أنه نذر نفسه لهذا الوطن الغالي.
وقد اعتبر الإعلام بالقدر اليسير من المعلومات المرخص بها أن اختفاء “عبدالحكيم عامر” بهذه الطريقة انتحار بعد أن عز عليه هزيمة جيشه الذي دلل قياداته، كما صور الإعلام أن “عبدالناصر” كشفت له الهزيمة عن دولة المخابرات فتخلص من مديرها “صلاح نصر”، واستجاب لمظاهرات الطلبة لإعادة محاكمة قادة الطيران، صور الإعلام حرب مصر في اليمن على أنها إحدى تطبيقات القومية العربية مهما كانت التضحيات، وأن ثورة مصر لا يمكن أن تستمر إلا إذا اشتعلت الثورات في كل مكان، ولذلك رحب بثورة العراق عام 1958م، وبطولة “عبدالناصر” في التصدي لمغامرات “عبدالكريم قاسم” في العراق عام 1961م التي انتهت بثورة عام 1963م وإعدام “قاسم”، وأن ثورة اليمن كانت رداً على انفصال سورية، وأن ثورة ليبيا “القذافي”، والسودان “النميري” في عام 1969م كانتا رداً على هزيمة نظام الثورة في مصر؛ مما يعني أن الأمة جسد واحد، إذا سقط علم في مكان ارتفعت أعلام في كل مكان.
منحدر الزعيم الأوحد
صور الإعلام دعم “ناصر” لنضال الجزائر وتونس والمغرب أنه جزء من المعركة ضد الاستعمار الغربي، وفي إطار أن قضية الحرية لا تتجزأ، ولذلك كان نجماً في العالم الثالث و”حركة عدم الانحياز”.
باختصار، صورة “عبدالناصر” هو الزعيم الشعبي المصري العربي الثائر على التبعية والظلم، ومحرر الفلاحين والعمال من جلاديهم من الإقطاع ورأس المال، والمتصدي للمشروع الصهيوني، وأن المؤامرة أسقطته، كما أن المؤامرة أنهت حياته غدراً بعد أن تمكن منه المرض، وجاد بأنفاسه الأخيرة بعد قمة إنقاذ المقاومة التي قهره وضعها فمات كمداً على حالها، ولذلك أخلصت له الأمة قدراً إخلاصه لها وودعته الملايين في جنازة تاريخية، ولذلك دخلت مصر بعده في منحدر مخيف في عهد خلفائه “السادات”، و”مبارك”، و”المجلس العسكري” بعد ثورة يناير.
إعلام الجيش لا الشعب
أبرز الإعلام المصري أيضاً أن الجيش الوطني الذي قام بثورة 1952م وصار يوم 23 يوليو عيداً وطنياً، بينما يوم 6 أكتوبر هو عيد الجيش وذكرى كسره لصلف القوة الصهيونية قبل أن تتسلل “إسرائيل” بمساعدة مصر إلى كل خلايا الجسد العربي.
في ضوء ما تقدم، فإن المحطات الرئيسة في سيرة “عبدالناصر” هي:
– أنه قام بثورة على الظلم والتبعية والاستغلال وتآمر الداخل والخارج لنصرة الشعب، وأنه استخدم الجيش في هذه الثورة، ولذلك أفاض الإعلام في مديح ثورة عرابي، ورمزيتها؛ وهي دور الجيش ضد أسرة “محمد علي” التي أنهى “عبدالناصر” آخر شخوصها الملك “فاروق”، بينما قلل الإعلام من قدر ثورة 1919م؛ لأن الجيش لا علاقة له بها، ولأنها كانت ثورة شعبية ضد الاحتلال الذي أنهاه “عبدالناصر” باتفاقية الجلاء، وأبرزها “سعد زغلول” الذي قادها بخلاف “عبدالناصر” الذي قام بحركة الجيش دون وجود تأييد شعبي وكانت موجهة للملك، على خلاف “سعد زغلول” الذي تأجلت معركته مع الملك في توزيع السلطات في دستور 1923م الذي أنهاه “عبدالناصر”، ولأن “سعد” جمع جميع عناصر الأمة دون أيديولوجية معينة، ولأن “سعد” أنشأ “الوفد” بحجمه الشعبي الكبير الذي قضى عليه “عبدالناصر” حين ألغى الأحزاب جميعاً وأنشأ حزبه الوحيد.
– أن مبادئ الثورة تضمنت إقامة حياة ديمقراطية سليمة، ولكن معارك “عبدالناصر” الكبرى وفلاسفة حكمه أكدوا له أن حرية الوطن مقدمة على حرية المواطن، وأن معاركه الكبرى لم تدع له فرصة تنفيذ مبادئ الثورة سوى القضاء على تحالف الإقطاع ورأس المال والملكية.
– تحويل المجتمع المصري من مجتمع الطبقات الذي يعرف كل مكانه فيه وفق محددات معينة، مع المرونة في الانتقال بين هذه الطبقات إلى مجتمع “تحالف قوى الشعب العاملة”، ونبذ مصطلح الطبقية، ولو عاش لرأى أسوأ صورة للطبقية الطفيلية والاستبدادية في مصر، ولحزن لانقسام المصريين في حالة سرطانية.
– قضى “عبدالناصر” على خصومه بلا رحمة، فاعتبر “محمد نجيب” خصماً بعد أن تستر صغار الضباط وراءه يوم 23 يوليو لكي يكون في الواجهة؛ فيثق الناس في الحركة التي نشأت من “الضباط الأحرار” في الجيش منذ سنوات ولم يكن “نجيب” منها، ولكي يتحمل أخطار الفشل لو حدث، وساموا “نجيب” سوء العذاب، لأن “عبدالناصر” لم يشأ أن يسجل التاريخ أنه أول رئيس مصري في التاريخ بعد زمن الفراعنة، ولكن التاريخ لا يكتب مرة واحدة، كذلك عصف “عبدالناصر” بكل قوى النظام الملكي بقسوة في “محكمة الغدر”، مثلما عصف بالإخوان المسلمين بعد حادث “المنشية” عام 1954م ثم بإعدام قياداتهم عام 1965م، واضطرارهم إلى الفرار إلى السعودية والخليج، حيث استُخدموا ضد “عبدالناصر” خاصة بعد أن شن حملة قاسية من جانب “النظم التقليدية” ضد “النظم الرجعية” في السعودية والخليج، وبعد أن هدد النظام السعودي في اليمن التي يراها البعض أنها مغامرة أسهمت في هدم مصر وهزيمتها.
– كرس “عبدالناصر” دور العسكريين في المجتمع، وبأنهم أرقى فهماً ووطنية من المدنيين، فانتشر العسكريون في جميع الوظائف حتى وجدنا السفراء في العواصم الكبرى خاصة من العسكريين، مما سهل لتحول النظام في مصر بعيداً عن الحكم المدني الديمقراطي.
– النتيجة النهائية لحصيلة تجربة “عبدالناصر” لا تنفصل عن خلفائه الذين اختارهم، ولكن فسادهم لا يتحمل هو مسؤوليته، ولكن ضربت مصر ضربة نجلاء في المواضيع الآتية:
1- تقدم أمثالها والأقل منها وتعطلت فيها خطط التنمية.
2- تدهور مجتمعها وتعليمه وثقافته واقتصاده لأسباب عديدة.
3- ضاع على مصر إنشاء نظام ديمقراطي يقوم على قوى المجتمع المدني الحقيقية؛ لأن انتشار العناصر العسكرية واكبه تمكن العناصر الأمنية، فصار النظام عسكرياً أمنياً، ولا مكان فيه لحكم ديمقراطي.
وتقطع التجارب الدولية بأن النظم العسكرية لا تفسح بحكم تكوينها مجالاً للديمقراطية والدولة المدنية والسلامة الاقتصادية والاجتماعية، وكلها قضت على دولها التي استنقذتها الديمقراطية التي نشأت بعد التخلص من النظم العسكرية خاصة في أمريكا اللاتينية، كما أن الدولة الأمنية العسكرية أدت إلى انهيار الدول التي قامت فيها لأنها لا تسمح بحكم القانون أو استقلال القضاء أو السياسة أو المجتمع المدني.
لقد كان الصدام بين “عبدالناصر” والاخوان، راجعاً إلى طبيعة النظام العسكري الذي أنشأه والذي يتناقض مع النظم الدينية، وكل من النظم العسكرية والدينية والشيوعية القائمة كلها على الاستبداد المستند إلى الدين أو القوة أو العقيدة السياسية، وكلها سواء في تدمير الدول وفق سجل التجارب التاريخية.
ويصبح الصراع بينهما حتمياً على السلطة، ولا يمكن أن يخضع أحدهما للآخر، ولذلك يتعين لإنقاذ مصر دعم المجتمع المدني وثقافة المجتمع، ووضع كل من الجماعات الدينية والمؤسسات العسكرية بعيداً عن المجتمع وإدارته.
لقد شجع “عبدالناصر” المقاومة الفلسطينية، ولكن دون رؤية واقعية للصراع، ولذلك هزمت “إسرائيل” نظامه الهش وجيشه المدلل، وغيرت خريطة المنطقة ووضعت تحت أقدامها العالم العربي الذي سعى “عبدالناصر” إلى وحدته وقوته بقيادته، كما قضت على قواعد العمل العربي المشترك ومنظماته، وأهمها الجامعة العربية، ولم تقم لمصر قائمة منذ الهزيمة الكبرى عام 1967م.
لقد فشل العداء لـ”إسرائيل”، كما فشل الصلح مع “إسرائيل”، فقامت ثورة يناير، والقضية الآن ليست أين موضع الجيش في ركاب السلطة؟ ولكن القضية كيف تحشد الشعب الواعي لتحقيق أهداف الثورة؟ وفي مقدمتها إبعاد العسكريين عن السياسة، ودعم المجتمع المدني الذي كان ضعفه سبباً في اختراق الجيش والأمن والجماعات الدينية له.
إن مصر الآن تعاني ثلاثة تحديات؛ الأول: هيمنة القوى العسكرية الأمنية وإعادتها إلى قبضة نظام “مبارك” بما يمثله بالنسبة للحريات والتخلف والفساد والتبعية.. التحدي الثاني: هو التدهور الخطير الاجتماعي والأمني والأخلاقي والاقتصادي.. التحدي الثالث: المزيد من التبعية للخليج، والتعاون مع “إسرائيل”، يجمعهم جميعاً ملف السياسة الجديدة المسمى “الإرهاب”.
فهل حقق “عبدالناصر” وخلفاؤه وعودهم بإنشاء حياة ديمقراطية سليمة وانتصروا على “إسرائيل”؟