فكر إصلاحي متقدم
إن من أعظم ما قام به خير الدين التونسي تأليفه كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» الذي أودع فيه خلاصة تجاربه ومشاهداته، وألف خير الدين كتابه هذا في زمن عزلته التي امتدت سبع سنوات، قضاها في السفر والتأمل، وإذا كان في تونس بقي في بستانه منعزلاً عن الناس.
وقد بلغ الكتاب شأواً كبيراً وعلت منزلته، وقسم خير الدين كتابه إلى مقدمة وموضوع أساس، وذلك كما صنع ابن خلدون من قبله، ونالت المقدمة شيئاً من الإجلال والاحترام الذي نالته المقدمة الخلدونية الشهيرة، ووضع في المقدمة تصوره للإصلاح في تونس والعالم الإسلامي، وحصر أسباب تخلفه، وركز على الخلل السياسي، وبين أن بعض السياسيين وعلماء الإسلام كانوا قليلي الوعي بما يحصل في العالم آنذاك.
وقد بين خير الدين أن تأليفه الكتاب كان لسببين:
الأول: حث السياسيين وأهل العلم على تغيير الواقع السيئ وتحسين حال الأمة.
الآخر: تحذير من سماهم «أهل الغفلة» من الإعراض عن محاسن الغرب بدعوى كفره وضلاله.
ولا شك أن خير الدين عاش في مدة لم يتبين فيها لأكثر أهل العلم القاعدة التي يسير عليها علماء العالم الإسلاميّ اليوم، وهي أننا نأخذ من غيرنا أحسن ما عنده، ونترك فساده وكفره وشره، هذا لم يكن واضحاً آنذاك لأسباب كثيرة لا مجال لسردها في هذه العجالة، لكن خير الدين تمكن من تقريب هذه القاعدة – التي تبدو سهلة ومفهومة اليوم – إلى القراء في كتابه، وضرب الأمثال من شرعنا وتراثنا على هذا، وكتابه دال على أن الرجل قد نال حظاً وافراً من علوم الشرع واللغة والاجتماع.
وكان خير الدين في كتابه حسن الجمع بين أمور الشرع ولوازم الارتقاء بالاستفادة من النافع من الحضارة بدون انبهار ولا تكلف، ومكّنه من نقل أكثر أفكاره إلى الواقع أنه جمع بين كونه مفكراً وسياسياً وتنفيذياً أيضاً، وتقلب في أكبر المناصب، وفهم واقع البلاد تماماً.
إصلاح ونهضة
ومن المهم أن نعلم أن خير الدين في كتابه ذاك كان مريداً لإصلاح الولايات الإسلامية المختلفة وبث النهضة فيها لكن مع التمسك بالإسلام والخلافة، وعدم التفريط في الأصول الشرعية، مع المطالبة الملحة بالحرية والعدل والشورى.
وأشاد بكتابه هذا المصري رفاعة الطهطاوي، والشامي عبدالرحمن الكواكبي وكلاهما من زعماء الإصلاح، وأشاد به مستشرق ألماني وعَدّه أفضل كتاب ظهر في القرن التاسع عشر في العالم الإسلامي، وطُبع الكتاب في المطبعة الرسمية في تونس عام 1284هـ/1868م، وترجمت المقدمة – قبل طبعه في تونس – إلى الفرنسية، وانتشر أمره، وذاع صيته، ثم طبعت المقدمة في تركيا باللغة العربية عام 1294هـ/1876م، وترجمت إلى التركية وطبعت عام 1292هـ/1878م، وترجمت إلى الإنجليزية عام 1387هـ/1967م.
فأولى بمن يريد معرفة التطور التاريخي والحضاري والثقافي للمجتمعات الإسلامية أن يُعنى بالكتاب، ويدرسه دراسة واعية منصفة، تنظر إليه في سياقه الزمني التاريخي، ولا يحاكمه بما استقر من المفاهيم اليوم، ويخرج كنوزه ودرره إلى المهتمين بالإصلاح في أيامنا هذه.
صفات خير الدين:
اشتهر خير الدين بالشجاعة والإقدام والجرأة في معالجة الأمور مع الحكمة والأخذ بالتدرج والتفطن للسنن.
وكان ذكياً مثقفاً، مجيداً للعربية والتركية والفرنسية كتابة وقراءة ومحادثة.
وكان دمث الخلق، عفيفاً عن الأموال والفروج، مبتعداً عن الصغائر، حسن التدين، فأحبه الناس وتعلقوا به، وأحبه الأوروبيون على ضيقهم منه بسبب تضييقه على مطامعهم في الاستيلاء على اقتصاد البلاد التونسية بدعوى استيفاء الديون.
وكان قوياً في حكمه حتى لُقب بالمستبد العادل، لكن أحوال البلاد آنذاك كانت تسوغ هذه القوة والشدة في الحكم بسبب تعود الناس على هذه الطريقة، والأمور آنذاك ما كانت لتستقيم إلا بذلك، لكنه لم ينقل عنه ظلم لأحد ولا تعسف في الحكم.
ومن أهم خلاله ولاؤه للسلطنة العثمانية، فقد كان يرى أن العثمانيين مخلصون في حكمهم ولا بد من الانضواء تحت لوائهم ومساندتهم، ومن هذا الباب فقد ساند العثمانيين في حربهم مع الروس لما رفض «الباي» معونتهم بالمال، فدعا خير الدين الناس إلى اكتتاب عام في المال والرجال، فاستجاب الناس له.
وقفات لا بد منها
– يُعدّ خير الدين أحد كبار رجال الإصلاح في العالم الإسلامي لكنه – لسبب أو لآخر – لم تنتشر أفكاره، ولم يعُرف على نطاق واسع بين دعاة عصرنا هذا ومثقفيه، ولم يُستشهد بآرائه كما استشهد بآراء إخوانه من المصلحين، ولعل لكونه من المغرب العربي الكبير أثراً في هذا، فقد ظل المغرب الكبير وأهله في عزلة عن المشرق دهراً طويلاً امتد إلى يوم الناس هذا.
– جاء خير الدين في وقت عظم فيه الفساد والخلل سواء في تونس أو في الدولة العثمانية، فلم يستطع خير الدين أن يجري قواعد الإصلاح على ما أحب، ولا أن يرسخ آثاره في المجتمع، على أن إصلاحاته أوجدت تحسناً لا ينكر، لكنه يظل ترميماً لجسد متهالك بلغ الغاية في الفساد والخلل، ولم يجد على الخير أعواناً أكفاء بل كان يعمل ويحاول بلا نُصراء ولا معاونين كفاة كافين، وهذا هو – على التحقيق عندي – ما افتقده خير الدين في محاولاته الإصلاحية.
– استفاد خير الدين من جولاته الأوروبية، فقد مكث في فرنسا قرابة خمس سنوات، وطاف مبعوثاً لـ«الباي» في عدة دول أوروبية، فاستفاد من كل ذلك اطلاعاً على الواقع الغربي بتفاصيله، وأودع ملاحظاته في كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، ولما كان صاحب غيرة على دينه وأمته فقد أراد أن ينقل تجربة الإصلاح إلى بلاده وإلى غيرها من بلاد الإسلام، فوفق كثيراً في الجمع بين قواعد الإسلام ومقتضيات النهضة الأوروبية، ولم يوفق في بعض ما ذهب إليه، وهذا من طبائع أي عمل إصلاحي أن يكون فيه الصواب والخطأ، ولابد لمحاولات الإصلاح المبكرة التي قام بها خير الدين أن يكون فيها بعض الخطأ الناتج عن ضعف المفاهيم الإسلامية الصحيحة في تقويم النهضة الأوروبية آنذاك، وسأزيد هذا توضيحاً فيما سيأتي.
– كان لبعض آراء خير الدين غرابة أو خروج عن بعض قواعد المنهج الإسلامي المعلوم المستقر في يومنا هذا، ولكن القواعد والضوابط في الجمع بين الإسلام والحضارة الغربية لم تكن مستقرة آنذاك، بل لم تكن معروفة، أو لنقل لم تكن نالت ولو حظاً يسيراً من الدراسة الجادة والبحث العميق الذي نالته بعد ذلك، فلهذا لا بد من التماس العذر لرجل مثل خير الدين في بعض ما ذهب إليه من قواعد ونتائج، فقد عاش زماناً اختلطت فيه المفاهيم، وغبشت فيه الصورة، ولم يظهر من العلماء من بحث في هذه المسائل بحثاً عميقاً كما ظهر من بعد، ومن أمثلة ذلك أن خير الدين كان يرى أن النظام الرأسمالي هو الأفضل والأحسن لتونس، وفي ذاك الوقت المبكر لم يكن هناك ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي حتى يدعو إليه، لكنه بالغ في دعوته تلك وأتى بها بدون ضوابط، وكذلك في قضية الحريات كان من المناسب أن يوردها بضوابط تضبطها وتقومها لكنه أرسلها إرسالاً متأثراً بالحضارة الغربية المادية التي رآها في أوروبا طويلاً، وبعض الباحثين يتهمه بالدعوة إلى فصل الدولة عن الدين، وإذا صح هذا فتكون سقطة من خير الدين يخففها ما ذكرته سابقاً من عدم استقرار المفاهيم في العصر الذي عاش فيه خير الدين.
– وعلى كل حال، فقد كان خير الدين رجلاً من رجال الإصلاح من الطراز الأول، وعلماً من أعلام الإسلام في زمن قَلّ فيه الرجال والأعلام، يرحمه الله تعالى رحمة واسعة.