التلاحم العربي الإسلامي
تتداعى في خاطري.. في العقل والقلب معاً.. تتدفق في تيار الوعي واللاوعي كل صور التعاشق والالتحام بين العربي والإسلامي في تاريخنا الطويل الموغل في المسافات..
كلمات الله تعالى التي ترفع النداء المرة تلو المرة: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)}(يوسف)، { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا }(الرعد:37)، { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ}(طه:113)، { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3)}(فصلت)، دفق من الآيات تتصادى في كتاب الله تضع العربية والعرب في مكانهما الحق، الأهل والعشير الذي سيستقبل الكلمة ويتعذب من أجلها، يضحي ويستشهد ويمضي بها إلى نهاية الشوط الذي أريد له أن يكون حلقة الوصل والمفتاح بين جزيرة العرب، موطنهم الأصيل، وبين العالم الذي سيطاح بقياداته الضالة وطواغيته وأربابه، لكي ما يلبث المشروع الإسلامي الذي يخرج به العرب، يحمل شهادة التوحيد والفتح والتحرير، أن يحتضن التركي والفارسي والكردي والصيني والهندي والبربري والزنجي، وكل الناس والجماعات والشعوب الطيبة في هذا العالم.
رسول الله “صلى الله عليه وسلم” وهو يبذل في سنواته الأخيرة جهداً استثنائياً في «ذات السلاسل»، و«مؤتة»، و«تبوك»، و«حملة أسامة»، من أجل فك الارتباط بين القبائل العربية وقيادتها البيزنطية الجائرة لكي يعيدها إلى حضن الأم التي شردت عنها ويوظفها – من ثمّ – ليوم الفتح الذي سيغيّر خرائط الدنيا. عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” وهو يرفع شعاره المعروف «العرب مادة الإسلام»، و«إذا ذلّ العرب ذل الإسلام»، ويقيم بين الفاتحين وخصومهم سدّاً من التميّز الذي يبقيهم على أصالتهم فلا يسوقهم إلى الضياع.
الفاتحون وهم يندفعون في ديار العراق والشام والجزيرة الفراتية فيجدون في بعض القبائل العربية التي ظلّت على نصرانيتها، اليد التي تعينهم في مهمّاتهم الكبرى وتضع قدراتها تحت تصرّفهم وهم يهدمون العالم العتيق. المصريون الأقباط، أخوال إبراهيم بن رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، وهم يستقبلون المحرّرين القادمين من جزيرة العرب ويفتحون لهم قلوبهم، وينطلقون معهم لتحرير الأرض من طاغوت الروم الذي أذاق المصريين من صنوف التمييز المذهبي ما يشيب له الولدان. والخواطر تتداعى كسيّال لا يكف عن التدفّق، منطوياً في اللحظة الواحدة على صنوف الصور والمرئيات والتجارب والخبرات، وكلها تتمحور عند هدف واحد، معنى واحد، بؤرة واحدة، حيث تصير العروبة والإسلام شيئاً فريداً متوحّداً. وأتذكر، وأنا أسلم نفسي للتيار، مدرّس العربية المسيحي «يعقوب عيسكو» الذي كان كتاب الله سبحانه يدهشه، فكان يتخذه أساساً لتدريس اللغة العربية لطلبته في إعدادية الموصل، أتذكر أيضاً «توفيق السمعاني»، الصحفي المسيحي المعروف وهو يحدّثني كيف أنه صبيحة كل يوم لا يحلو له أن يمضي إلى عمله قبل أن ينصت بجوارحه كلها لآيات من القرآن الكريم يرتلها الشيخ محمد رفعت، أو الشعشاعي، أو أبو العينين.
تاريخنا حافل بمعطيات الصدق والمحبة بين مواطنين عرب في دولة واحدة، انتموا لأديان شتى، ولكنهم وجدوا في مظلّة الإسلام، المظلة الوحيدة في العالم التي يمكن أن يلتقي تحتها المنتمون لهذا الدين وغير المنتمين إليه فيما لم تشهد له البشرية مثيلاً. تقتحمني – أيضاً – مقولة المستشرق البريطاني المعروف «سير توماس أرنولد» الذي أفنى عمره وهو يبحث في تاريخ الدعوة إلى الإسلام وسبل انتشاره، وهي أنه على مدى ثلاثة عشر قرناً لم يعثر على حالة واحدة، واحدة فقط، أكره فيها غير المسلم على اعتناق الإسلام. فلو أن الإسلام، بتميّزه وتألقّه، استخدم القوة أو القسر تجاه غير المسلمين، لما بقي في ديار الإسلام مسيحي واحد، ولكن ها هم الآن يملكون حضوراً ملحوظاً.
والفرص التي أتاحها المسلمون، قيادة وقواعد، لمواطنيهم من غير المسلمين في الحياة العامة والاقتصاد والمال والإدارة، في النشاط العلمي والسياسي، في الاستقلالية الدينية الكاملة، ما أتيحت في أي تجربة أخرى في تاريخ البشرية. لقد أصبحت العلاقة بين الطرفين، بوضعها هذا الذي يستمد نسقه من سماحة الإسلام وفضائه المفتوح للآخر على مصراعيه، مثلاً يضرب على قدرة الشعوب التي تتغاير أديانها وعروقها، على التعايش المشترك تحت مظلة الله تعالى.
وأتساءل بيني وبين نفسي: إذا كانت العلاقة بين العربي والعربي معجونة بهذا القدر من النبل والمحبة والتكافل، وهم على عقائد متغايرة، فكيف يمكن أن تكون بين العربي والعربي اللذين ينتميان للإسلام؟ ما الذي حدث لكي ينتهي الأمر بأن يدير أحدهما ظهره للآخر، وتتحفز الأيدي في السرّ والعلن، لكي تمسك بالخنجر الذي يغوص في اللحم؟ ولماذا؟ ألم يخطر على البال، لحظة واحدة، أن ثمة «مؤامرة» من نوع ما سعت ولا تزال لتنفيذ هذه القطيعة وتأكيدها في حياتنا المعاصرة التي نسجت بداياتها الأولى مع دخول أوّل جندي أجنبي إلى ديارنا منذ أكثر من قرنين من الزمن؟