آن برناس / إذاعة فرنسا الدولية “راديو فرانس آنترناسيونال”
اليرموك يصارع الموت، فبعد المجاعة “المنظمة” من قبل النظام السوري ها هو أكبر مخيم فلسطيني بالشرق الأوسط يتعرض لرعب تنظيم الدولة منذ عشر أيام، أين يناضل فلسطينيون من أجل العيش على أبواب دمشق وسط صمت المجتمع الدولي؟
يعتبر اليرموك قطعة صغيرة من فلسطين، حيث تحيل كل أسماء الشوارع عليها ويبعد قرابة مائتي كيلومتر عن مخيم رام الله، غير أنه لا يمكن الولوج إليه، وتعتبر وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى هذا المخيم الذي تم إنشاؤه عام 1957م إثر حرب 1948م غير رسمي، مما جعله يفتقر لأبسط مقومات العيش.
وهو في حقيقة الأمر مدينة مستقلة تمتد على 2كم2، تبعد 7 كيلومترات عن جنوب دمشق بمدارسها ومستشفياتها وتجارتها ومنتزهاتها، تتكون من شوارع ضيقة ومبانٍ مرتفعة، غير أن هذا اليرموك لم يعد موجوداً منذ عام 2011م، حيث لم يتبقَّ سوى 16 ألفاً من أصل 250 ألف ساكن من لاجئين فلسطينيين وسوريين وعراقيين، قضى معظمهم تحت وطأة نقص الغذاء والدواء وقطع الكهرباء، علاوة على تسوية كافة المباني بالأرض.
اليرموك يدخل الحرب السورية رغماً عن أنفه
صرح الرئيس الفلسطيني محمود عباس منذ أيام بأن “الفلسطينيين يدفعون ثمن حروب واعتداءات لا تمت لهم بصلة”، منادياً بضرورة إيجاد حل لإنقاذ سكان اليرموك الأبرياء.
من جهتها، كانت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى قد أشارت في الثامن من أبريل إلى قرب اندلاع مجزرة أبرياء، في حين أفاد بان كي مون بأن قاطني هذا المخيم الذي يضم 3500 طفلاً قد تحولوا إلى دروع بشرية، مشبهاً إياه بمخيم الموتى، ومعتبراً أنه آخر “دائرة لجحيم” إبادة انطلقت في سورية كلها منذ أربع سنوات.
وكان مخيم اليرموك يستقبل عديد اللاجئين السوريين منذ انطلاق الحرب، باعتباره منطقة محايدة حاولت أن تنأى بنفسها عن الصراع السياسي، غير أن جزءاً من السكان بدؤوا في الانتفاض ضد النظام في عام 2012م، إثر قصف حي تدمون المجاور؛ مما آذن بانطلاق هجمات مكثفة من الجيش السوري، مجبراً العديد من اللاجئين إلى الفرار وبقاء قرابة الـ40 ألفاً أجبر الفقر معظمهم على البقاء.
هذا وقد تمت محاصرة المخيم وقصفه باستمرار منذ ما يزيد على العام؛ الأمر الذي أدى إلى القضاء على أكثر من نصفه، فقد قرر نظام بشار الأسد فرض حصار تام على كافة السكان رداً على انتفاض القليل منهم، إذ تتم مراقبة كل المنتجات التي تدخله وتخرج منه، غير أن عام 2013م قد شهد تغيراً جذرياً في أسلوب تعاطي السلطة مع اليرموك؛ فقد تم منع مغادرته كلياً.
نتيجة لذلك، خيمت المجاعة على المنطقة، مودية بحياة العديد من النساء والأطفال والشيوخ، وانتشرت صور مرعبة لأجسام اجتاحها الهزال وسط صمت دولي مطبق.
ويروي محمد شعبان، لاجئ شاب، بتأثر: “لقد بدأت مأساة اليرموك مع الحصار الذي فرضه النظام السوري مانعاً عن سكانه مستحقاته اليومية؛ مما أدى إلى موت عدد منهم جوعاً دون أن تكلف جهة نفسها عناء التحدث عما يحصل، لقد انتظر الإعلام وصول “داعش” حتى يسلط الضوء على هذه المأساة”، يذكر أن قرابة الـ200 شخص يفقدون حياتهم دورياً بسبب سوء التغذية، في حين يحيى البعض بـ400 سعرة حرارية، في حين يحتاج جسم الإنسان قرابة الـ2000، في ظل ارتفاع ثمن الكيلوجرام من الأرز إلى حدود الـ100 دولار.
إما تنظيم الدولة أو سياسة الفوضى الدائمة
أدى هجوم تنظيم الدولة إلى السيطرة على 90% من المخيم، حيث تمكن مقاتلوه من السيطرة على ما تبقى منه مطلعَ أبريل، إثر مواجهات دامية مع “أكناف بيت المقدس” الفلسطينية المناهضة للأسد، وتعتبر المنطقة إستراتيجية لما لها من قرب من العاصمة دمشق، التي لم يتسنَّ لتنظيم الدولة الاقتراب منها إلى هذا الحد.
ومن جهته، أعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان عن مقتل ما يقل عن 38 شخصاً منهم 8 مدنيين في 10 أيام، وتضم حصيلة القتلى سبعة أعضاء من “أكناف بيت المقدس”، الفصيل التابع لـ”حماس”، قام مقاتلو “داعش” بذبح اثنين منهم.
ويروي محمد المستقر في باريس الآن منذ 10 أيام أصبحت أقضي الليل على السكايب معهم، مع الناشطين هناك وأصدقائي وجيراني، توفي البعض منهم البارحة بسبب الجوع، إنهم يعيشون الرعب، ويضيف بصوت غلب عليه النوم: “يتوجب على سكان اليرموك الخروج وسط النيران لجلب المياه، فما كان منهم إلا أن توقفوا عن ذلك”.
بالنسبة للناشطين بسورية، لم يعد هناك أمل بتاتاً، إذ صرح أحدهم: “أخشى أنه لم يعد أمامنا اليوم خيار سوى الموت أو الموت، فإما أن نموت بأيدي النظام، أو تحت براثن تنظيم الدولة، أو جوعاً وعطشاً”، ولم يخالفه محمد الرأي مشيراً إلى أن بعض الناشطين يواجهون نيران وتعذيب “داعش” أو النظام السوري، إنهم محاصرون في المخيم دون مخرج عدا الموت.
مسرح اليأس
انقطعت المعونات الإنسانية العشوائية مع وصول تنظيم الدولة التي طالت قذائفه مستشفى المخيم، من جهته أطلق كريس جينيس، الناطق الرسمي باسم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى، صرخة استغاثة: “الوضع في اليرموك هو إهانة لإنسانية كل منا، وصمة عار عالمية، اليرموك هو اختبار وتحدٍّ للمجتمع الدولي، يجب علينا ألا نفشل، إن مصداقية النظام الدولي على المحك”.. وقد سجل وصول المتطرفين مغادرة ما يقارب الـ500 عائلة إلى مدن تحت سيطرة النظام السوري الذي ما انفك يستهدف المخيم بالبراميل المتفجرة لطرد تنظيم الدولة.
وكان مجلس الأمن قد نادى في السادس من أبريل، وأثناء توجه أحد المسؤولين الفلسطينيين إلى سورية، بضرورة “حماية المدنيين وضمان وصول مساعدات إنسانية للمخيم لتوفير المساعدات الضرورية لساكنيه”، إلا أن هذه الرسالة لم تلاقِ صدى في ظل كبر المأساة المستمرة.
هذا وقد أمسى مخيم اليرموك رمزاً للمعاناة والحرمان، فهل توقع بشار الأسد مثل هذا السيناريو؟ يجيب محمد بحرقة: نحن نتحدث الآن عن “داعش” في حين نعيش منذ 4 سنين تحت القمع والتهديد بالتعذيب والرعب التام، أكثر من 200 ألف من النساء والأطفال والرجال قضوا في سورية، لقد كان من الواضح أن نظام بشار الأسد سيقدم على مثل ما تفعله “داعش”، وإذ يمضي النظام السوري في سياسة تعميم الفوضى على كافة أرجاء البلد وإقحام الفلسطينيين فيها يشير محمد: “لقد شهدنا مجاز صبرا وشاتيلا ونهر البارد، غير أن مأساة اليرموك هي الأسوأ”.
وفي حين تتلقى صفحة مخيم اليرموك على “الفيسبوك” رسائل من قبيل “اليرموك لن يسقط”، يخيم اليأس على محمد الذي لا يمكنه تصور مستقبل أفضل، مفضياً بألم: “حين أحكم النظام حصاره على المخيم قلنا: إنه لا يوجد أسوأ من الموت جوعاً، وكررنا نفس العبارة حين اقتحم تنظيم الدولة المنطقة، أما الآن أصبحت أشك في أن الأسوأ لم يأتِ بعد، لم أعد أجرؤ على التخيل”.
بالنسبة لهذا الشاب اللاجئ، اليرموك هو فلسطين.
الرابط
http://www.rfi.fr/hebdo/20150410-yarmouk-camp-refugies-syrie-palestine-assad-daesh-etat-islamique-damnes-terre/