{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل: 104)، {… فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (الصف: 5)، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (يونس: 100)، {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} (النساء: الآية 115)، {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء: الآية 155)، {وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (الشورى: الآية 8)، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: الآية 69)، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا…} (السجدة: الآية 24)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ ب…} (يونس: الآية 9)، {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 146-147)، {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى: 30)، {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}
(الزخرف: الآية 55)، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} (الزخرف: 76).
فهل ثمة أكثر من هذا تأكيداً على منطقية القدر في المنظور الإسلامي، ودقته وإحكامه؟ ها هنا حيث ترتبط النتائج بأسبابها، لا تشذ عنها ولا تعاكسها، وإنما تتساوق معها وتنبني عليها من أجل أن تضع كل شيء في مكانه المناسب تماماً.
ها هنا نجد – مثلاً – أن الله سبحانه وتعالى لا يهدي من لا يؤمن بآياته، طواعية وباختياره المطلق، سواء كانت آيات الله في الكون والعالم والطبيعة والإنسان، أو في كتابه المعجز، وما أكثرها، ولكن العمى هو العمى، وعندما تعمى البصيرة فلن يكون بمقدور ألف من حواس البصر أن تُري صاحبها الحق؛ فهو والهدى على طرفي نقيض.
ها هنا لا يزيغ الله سبحانه وتعالى إلا القلوب التي اختارت أن تزيغ عن أمر الله تعالى، وآياته، ودلائل وجوده، ووحدانيته سبحانه، والذين لا يعرفون كيف يستعملون عقولهم للوصول إلى الحق يحيقهم الله بالرجس، ويصدّهم عن الإيمان؛ لأنهم اختاروا بإرادتهم ألا يستجيبوا لنداء الإيمان.
وها هنا يكون نقض المواثيق، وقتل الأنبياء بغير حق، وتغليف القلوب بطبقة من الران والصدأ سبباً لكي يطبع الله على قلوب أصحابها بالكفر، وها هنا يصير الظلم الذي يمارسه الإنسان بحريته واختياره سبباً لطرده من رحمة الله تعالى، ويصير التكبر في الأرض بغير الحق، والعزوف عن سلوك سبيل الرشد واستبدال سبيل الغي به، والتكذيب بآيات الله ولقاء الآخرة، والغفلة عنها، سبباً في الجزاء الذي يستحقونه وفق قاعدة «الجزاء من جنس العمل».
والمصائب التي تحيق بالناس لا تأتي جزافاً، وحاشا لله، إنما تأتي بما كسبت أيديهم، وبالأسباب التي سهروا على صنعها، والتي كان لا بد أن تؤول إلى هذه النهايات المفجعة.
وبالمقابل؛ فإن الله يهدي من يجاهد فيه.. الجهاد على إطلاقه.. الأكبر والأصغر، وبذل ما في الوسع للاستقامة على الطريق، والذين قدّر لهم أن يصيروا أئمة يهدون بأمر الله سبحانه، ما كان لهم أن يتربعوا القمة ويصيروا كذلك لولا أنهم صبروا على البأساء والضرّاء، وحوّلوا حياتهم إلى جهد مكافح في مجابهته لكل صنوف الأذى والعدوان، هذا إلى أن الله سبحانه وتعالى لا يهدي إلا أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات وجعلوا حياتهم كفاحاً موصولاً من الإيمان والعمل الصالح.
وهكذا تتدفق الآيات لكي ترسم التصوّر العادل، الصحيح، لمسألة القدر والحرية، تلك التي طاشت مسالك أولئك الذين اتبعوا الظنون والأهواء، أو انتموا إلى المذاهب المعوجّة والأديان المحرفة، فلم يعد بمقدورهم أن يتبيّنوا مسالك الطريق، وطاشت بموازينهم الأحكام بخصوص هذه المسألة التي بين أيدينا، والتي لا يتسع المجال للخوض في تفاصيلها، في مقال موجز كهذا.
وفي آيات ثلاث من سورة «القصص»، يحسم القرآن الكريم ظاهرة القدر والحرية، ويضع النقاط على الحروف التي تزيد ما ورد في الآيات السابقة تأكيداً ووضوحاً:
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (سورة القصص: الآية 56)، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} (سورة القصص: الآيتان 68-69).
ومحور هذه الآيات هو علم الله سبحانه وتعالى الذي يسبق الحكم على المصائر، وهو علم مطلق بالباطل والظاهر على السواء.
وبناء على هذا العلم الذي لا يتقاطع مع إرادة الإنسان واختياره، يجيء الجزاء العادل هدايةً أو ضلالاً.
وفي كل الأحوال، فإن فعل الإنسان هو الذي ينبني عليه الجزاء: فـ{هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 147).