إن العديد من الناس يدركون السياسات التي أضحت تنتهجها روسيا داخل القارة الأوروبية، حيث إنه لا يخفى على أحد أن الحكومة الروسية ما انفكّت تقدّم دعماً سواء مادياً أو معنوياً للجماعات السياسية المتطرفة في أوروبا، فقد طلبت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، مؤخراً من مسؤولين أمنيين التحقق من مدى حجم التأثير الروسي في وسائل الإعلام الإلكترونية الألمانية.
أما رئيسة حزب الجبهة الوطنية، وهو حزب يميني متطرّف في فرنسا، مارين لوبان، فقد اقترضت أموالاً طائلة من البنوك الروسية لتمويل حزبها، ومازالت إلى الآن تطالب بالمزيد من هذه القروض.
لكن حتّى هذا الأسبوع، أي خلال الاستفتاء الهولندي، لم نر مثالاً قيّما يبيّن الطرق التي تعتمدها روسيا للتأثير في انتخابات أوروبية غربية، وقد انطلق هذا الاستفتاء، الذي يعدّ الأول من نوعه في ظلّ القانون الجديد، إثر حشد موقع “شعبوي” لمئات الآلاف من الهولنديين جمعوا من خلاله حوالي 300 ألف توقيع على عريضة ندّدوا فيها باتفاقية الشراكة التجارية التي جمعت كلاً من أوروبا وأوكرانيا، وتجدر الإشارة إلى أن هذه الاتفاقية هي نفسها التي استمات الأوكرانيون في الحصول عليها منذ فبراير 2014م.
والغريب في الأمر أن هذه الاتفاقية التي تهدف إلى تسهيل التجارة والتعاون بين كلّ من أوكرانيا وأوروبا، قد أثارت جدلاً واسعاً وخلافات جمّة، فهي مجرّد وثيقة تحتوي على حوالي 1000 صفحة من المصطلحات التجارية، وقد دخلت أساساً حيّز التنفيذ منذ الأول من يناير.
والجدير بالذكر أن هذه الاتفاقية لا تختلف عن سابقاتها، فقد وقّع الاتحاد الأوروبي سابقاً على عديد الاتفاقيات المماثلة مع عدّة دول مثل تشيلي والأردن وغيرها، إلا أن منظمي هذا الاستفتاء والمطالبين به لم يكلّفوا أنفسهم عناء قراءته، فهُم يرفضون كليّاً هذه الاتفاقية ويطالبون بإلغائها.
كما لا يمكن إنكار أنه كان لكلّ من الهولنديين المنتمين لأقصى اليسار وأولئك المنتمين لأقصى اليمين أهداف أخرى؛ فقد استخدموا التصويت لتقويض الحكومة الليبرالية المنتمية للتيار اليميني المعتدل وإضعاف مكانتها، بالإضافة إلى حشد المناهضين لأوروبا، وذلك لأغراض سياسية، وفي نهاية المطاف نجح مخطّطهم عندما بلغت نسبة المشاركة في الاستفتاء حوالي 32%، حيث لا بدّ أن تبلغ النسبة 30% حتى يصبح الاستفتاء قانونياً وصالحاً، فضلاً عن أن حوالي ثلثي المشاركين صوتوا ضدّ تمرير هذه الاتفاقية.
من الصعب حصر أعداد أولئك الذين تأثروا بالتضليل الذي تمارسه روسيا في هولندا خلال السنوات الماضية والذي تسارعت وتيرته خاصة خلال الأسابيع الأخيرة، حيث أدّت هذه الممارسات إلى بثّ الخوف والشكّ في نفوس الهولنديين بشأن التهديدات الأوكرانية التي “لا وجود لها”، وينعكس ذلك خاصة على المشهد الإعلامي في روسيا حيث تصدّرت الحملات المناهضة لهذه الاتفاقية العناوين الرئيسة في مختلف وسائل الإعلام الروسية.
واستشهد مسؤول في وزارة الخارجية الأوكرانية باستطلاع رأي أُجري مؤخراً في هولندا جاء فيه أن حوالي 59% من الهولنديين الذين صوّتوا ضدّ هذه الاتفاقية كان دافعهم الأساسي وراء ذلك هو أن أوكرانيا هي من بين الدول الأكثر فساداً، في المقابل 19% منهم اعتبروا أن أوكرانيا هي المسؤولة عن تحطّم الطائرة الأوكرانية من طراز “أم أيتش 17” التي أسقطها الانفصاليون الروس داخل الأراضي الأوكرانية عام 2014م.
في حين أن حوالي 34% منهم اعتقدوا أن هذه الاتفاقية ستضمن منح أوكرانيا العضوية داخل الاتحاد الأوروبي، لكن هذه الحجج تعدّ غير منطقية، خاصة وأن هذه الاتفاقية تهدف بالأساس إلى الحدّ من الفساد في أوكرانيا.
ويمكن القول: إن الحملات المناهضة للاتفاقية تبدو وكأنها حادت عن أهدافها؛ فالأحزاب اليسارية المتطرفة فضّلت جلب الأعلام الفلسطينية إلى المسيرات والاجتماعات الحاشدة، في حين الأحزاب اليمينية المتطرّفة خيّرت الحديث عن المهاجرين المسلمين.
أما الحكومة الهولندية، فقد كانت مجبرة على دعم المجموعات الانتخابية عبر تمويلها مادياً، ومن المفارقات أن الأحزاب الهولندية اليمينية المتطرفة استخدمت أساليب وممارسات فاسدة لمحاربة الفساد في أوكرانيا وتحصّلت بذلك على أموال طائلة بذرائع واهية.
ولم تنظمّ الحكومة إلى هذه الحملات المندّدة باتفاقية الشراكة التجارية بين كلّ من أوروبا وأوكرانيا، ففي أمستردام، قبل شهر من التصويت، التقيتُ المسؤولين الهولنديين الذين أعربوا بكلّ صراحة عن قلقهم وخوفهم من الممارسات المتّبعة من قبل وسائل الإعلام التي يقودها التيار اليميني المتطرف، فالحكومة الهولندية لا تريد أن تتلقى انتقادات رسمية أو أن تتعرّض إلى السخرية، وتتصدّر العناوين الرئيسة في الصحف، على الرغم من ثقتها بوجود العديد من الأكاذيب التي تُحاك ضدّها، فإنها لا تريد أن تلقى استنكاراً واسعاً إذا ما حاولت تصحيحها.
إن العديد من التطوّرات تتالت في الآونة الأخيرة إبان إعلان الاستفتاء؛ حيث كان من المقرّر أن يكون “استشارياً” غير مُلزم، حيث لا يمكن إعادة مناقشة اتفاقية وافقت عليها 27 دولة، ولا شكّ من أنه سوف تكون هناك العديد من الحلول للخروج من هذه الأزمة، إلا أن العبرة المستخلصة ممّا حدث في هولندا تُؤكّد أن الأقليات الصغيرة الغاضبة، عندما تلقى دعماً خارجياً، سيكون لها تأثير كبير يمكن أن يصل حتّى إلى تقسيم الأغلبية المعتدلة في أوروبا الغربية ولن تتوانى روسيا عن مساعدتهم في ذلك.
إن اليمين المتطرّف يعدّ الآن أكبر قوة سياسية في هولندا، وعلى الرغم من الدروس التي تعلمها الهولنديون خاصة في الثلاثينيات، فإنهم بحاجة إلى تعلّمها من جديد حتى يتجنبوا السيناريوهات التي من المحتمل أن تحدث في الداخل.
المصدر:
http://www.slate.com/articles/news_and_politics/foreigners/2016/04/the_dutch_referendum_on_ukraine_shows_how_russia_is_influencing_europeans.html