انعقد من 3 – 6 أبريل 2016م في إسطنبول “المؤتمر العالمي لميثاق الأسرة” برعاية الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي يهدف إلى الخروج بميثاق عالمي ينظم شؤون الأسرة بديلاً عن اتفاقية “سيداو” المرفوضة من دول ومنظمات عدة حول العالم، انتهت المداخلات بجلسة ختامية تهدف في الأساس إلى خدمة ميثاق الأسرة الذي سيطلقه المؤتمر في ضوء الأطروحات والمناقشات لفصول وبنود ميثاق الأسرة العالمي والمرتقب لتقديمه للمحافل الدولية كبديل عن اتفاقية “سيداو” التي لاقت اعتراضات واسعة من دول ومنظمات حول العالم.
قضية المرأة من أكثر القضايا التي اندلع بشأنها الجدل في عالمنا الإسلامي، ولكن المشكلة أن معظم الطروحات كانت بين الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير، كما أنها استغلت للتأثير في المنظومة الأخلاقية التي تتحكم في الأسرة، وتحكم روابطها.
وقد نجحت هذه المحاولات في معظم البلاد غير الإسلامية، ونجمت عنها مشكلات أسرية أثرت على الأطفال وترتبت عليها آثار خطيرة على المجتمع.
وإذا كان الاعتدال هو الحل الأمثل في جميع الأنشطة الإنسانية، فإنه بلا شك يكون الحل الأفضل في هذه القضية أيضاً، ولذلك وقع اقتراح أن يكون مبدأ “التوازن” الحل الأوسط المحقق للمساواة العادلة؛ لأن المساواة المطلقة قد لا تحقق العدالة بالعقل والطبع، بالإضافة إلى الشرع، ولكنها قد تحققها، فمبدأ العدل يجب أن يكون قاضياً على المساواة كما هو الحاكم على غيرها باتفاق العقلاء، وبالنصوص الشرعية القاضية بحفظ مبدأ التوازن بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، ولذلك فإن جعل “مبدأ التوازن” هو الحاكم في تحديد العلاقات والحقوق والواجبات منسجم مع الكون ومجموعة نصوص الشريعة.
المرأة.. وفكرة المساواة العادلة
ليس في الإسلام تفضيل الرجل على المرأة، ولا العكس، وإنما وجود فوارق طبيعية وخلقية وبدنية، وهرمونية، وعناصر حيوية، لا بدّ أن يكون لها آثارها في نطاق العمل والاستخلاف والاستعمار الذي خلقنا الله لأجله بعد أداء العبودية له التي لا يختلف فيها الرجل عن المرأة، وإنما الاختلاف في مجال توزيع الأدوار لتحقيق عمارة الأرض، فالمساواة لا تكون على حساب العدل، وهو ما ذهبت إليه منظمات نسوية في معركتها المتطرفة من أجل حقوق المرأة، وأدت محاولات تحرير المرأة إلى التغرير بها، وأنشأت النِديّة المغشوشة احتراباً بين الرجل والمرأة أدى إلى ارتفاع نسب الطلاق والتفكك الأسري والضياع والتيه الاجتماعي.
وانتهت بالمرأة غنيمة وسلعة لتدفع وحدها فاتورة التنظيرات المتطرفة في علاقتها بالرجل، إضافة إلى الخطر الصحي البالغ، فقد حذرت منظمة الصحة العالمية من زيادة معدلات الإجهاض الخطر على صحة النساء، إذ بلغت حالات الإجهاض المتعمد في العالم 46 مليون حالة في العام، ففي السويد وحدها 38 ألف حالة، وفي روسيا 62.6%، وصلت العدوى إلى بعض بلادنا، حيث بلغت حالات الإجهاض في تونس 14 ألف حالة سنوياً، وهذا يعني أنه يقتل في كل عام 46 مليون طفل.
وفي مجال التفكك الأسري، نجد أنه قد بلغ منتهاه بسبب الأفكار الهدامة، حين نادت رائدات النساء في الغرب منذ فترة بأن الزواج مؤسسة لمنفعة الرجل، وأنه وسيلة للسيطرة على النساء، وعلينا أن نعمل على تدميرها، لأن في تدميرها تحريراً للمرأة، وقلن أيضاً: ستظل المرأة مستعبدة حتى يتم القضاء على خرافة الأسرة والأمومة، والغريزة الأبوية، وروجت هذه الأفكار إلى أن تم فعلاً تدمير الأسرة، ومؤسسة الزواج، والأمومة.
فمنذ الستينيات تراجع معدل الزواج بنسبة 33%، في حين تضاعفت نسبة الطلاق لتصل إلى 50%، ونسبة النساء اللاتي لم يتزوجن بلغت عام 1970م إلى 68%، والإحصائيات تشير إلى عزوف النساء عن إنجاب الأطفال، حيث إن 20% من النساء اللاتي بلغن 45 لم ينجبن أطفالاً، وظهرت ظاهرة الأطفال غير الشرعيين، حيث بلغت في عام 1994م في أمريكا إلى 50%، وبين السود إلى 70%، وفي 15 مدينة من المدن الأمريكية وصلت إلى 90%، كما أن هناك 5.5 مليون يعيشون مع النساء دون عقد زواج، ناهيك عن ازدياد نسبة والزواج المثلي المناقض للفطرة.
تدعم الأمم المتحدة معظم هذه التوجهات من خلال مؤتمراتها الخاصة بالسكان، وبالمرأة بالقاهرة، وبكين، واتفاقية “سيداو” عام 1979م، ومن خلال لجنتها الخاصة بها، والمواثيق التي تريد فرضها على الدول، حتى كشفت سارة فلود بويران، الممثلة الدائمة السابقة لمجموعة الكاريبي بالأمم المتحدة، عن المؤامرات التي تدبر بأروقة الأمم المتحدة ضد قيم الأسرة واستقرارها بدعوى الحرية والعولمة.
وقد كانت الأمم المتحدة في عام 1948م أقرت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تنص مادته (16) على أن الأسرة هي الوحدة الجماعية الطبيعية والأساسية للمجتمع، وأن الرجال والنساء البالغين لهم حق الزواج وتكوين الأسرة، ولكنها تركزت وثائقها في العقود الأخيرة على الجنْدرة، والمنظور الأنثوي الراديكالي، الذي يطرح الشذوذ الجنسي حقاً من حقوق الإنسان، وأن الأسرة المرتبطة بالزواج الشرعي تقف في طريق الحداثة.
تركيا ستتقدم إلى منظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الأمم المتحدة بهذه الوثيقة التي تحوي بنوداً وميثاقاً للأسرة يمكن اعتماده نصاً تشريعياً للإنقاذ الحضاري بديلاً عن اتفاقيات غربية مشبوهة.
والقول: لا تلعن الظلام، بل توقد شمعة في ديجور النظريات البائسة المتطرفة في علاقة الرجل بالمرأة التي مازالت فيها نخبنا اليعقوبية في المنطقة العربية تردد الفزّاعات القديمة في المعارك السياسية لتحرم المرأة من تشريعات متكاملة تقطع مع مجتمع الكراهية والاحتراب مع الرجل، فهي لا ترى من خلالها المشكلات الحقيقية للمرأة كالعنف ضدها الذي يتسبب فيه غياب التدين وليس وجوده، وكظاهرة العنوسة المتفاقمة التي بلغت في تونس 2.250 مليون عانس في شعب لا يتجاوز عدد سكانه 11 مليون نسمة.
الرؤية إلى المساواة في الغرب: من التطرّف إلى الاعتدال
تاريخ علاقتنا بالفكر الغربي في العصر الحديث تحكمه مفارقة عجيبة: فأي فكرة جديدة تظهر في الغرب تنتقل إلينا أو ننقلها نحن – ففضلاً عن كونها لا تجد من يحملها اجتماعياً – فإنها ما إن تبدأ أصداؤها تتردد في فكرنا، وبالتالي في تصوراتنا ومطالبنا، حتى تكون قد تجاوزت في مسقط رأسها أو في طريقها إلى أن تصبح متجاوزة ونحن غافلون، يبرز ذلك في أمثلة ثلاثة:
1- فعندما كانت أفكار عصر الأنوار تجد طريقها إلى بعض البلدان العربية التي كانت مهيأة بصورة ما لتتردد لها فيها بعض الأصداء، وكان ذلك في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، كانت تلك الأفكار – أفكار عصر الأنوار – قد فقدت أنوارها، وأصبحت تنعت بـ”الأيديولوجية البرجوازية”، بمعنى الفكر الذي يخدم مصالح الأغنياء، أصحاب رأس المال، وهكذا حلت محلها أفكار أخرى هي الفكر اليساري عموماً، الذي شكلت الماركسية بصورة أو أخرى عموده الفقري.
2- عندما أخذ الفكر الماركسي اللينيني يجد له حيزاً ما في الفكر العربي خاصة بعد الحرب العالمية الثانية؛ هو قيام كثير من المفكرين الأوروبيين اليساريين برفع شعار “الماركسية في حاجة إلى ماركس جديد”، في الوقت الذي كان فيه من سبقت شيوعيتُهم ماركسيتَهم، في العالم العربي، يتكلمون “ماركسية غير ماركسية” متمسكين بستالينية إمبراطورية لا ترى إلا في أمريكا فقط دولة إمبريالية، متناسية الإمبريالية الروسية نفسها التي ضمت جمهوريات بالقهر والجبر، وهو ما ذهب إليه المفكّر سلامة كيلة حين أعلن نهاية اليسار الكلاسيكي.
3- في الرؤية إلى المرأة، ظلت النخب العربية التي اعتبرت طويلاً أن الدين جزء من المشكلة وليس من الحل، متأثرة بأفكار النخبة الفرنسية، تستشهد – دون أن تعلن ذلك – بآراء الكاتبة الفرنسية سيمون ديبفوار المتأثرة بالفلسفة الوجودية الملحدة لجون بول سارتر، عاشت بين عامي 1908 – 1986م، ورفضت الخضوع لمصيرها المرسوم كأم وزوجة.
ظلت الكاتبة الوجودية المتطرفة مهووسة بقصة المجتمع الذكوري لتربط وضعية المرأة الفرنسية في القرن العشرين بالنماذج التحقيرية التي حاك خيوطها مذهب القدّيس طُوماس، وهي الكاتبة التي صاغت رؤية النخبة التونسية الأنثوية حول المرأة، فانتهت بها إلى أكذوبة التّناصف النظري الجبري وليس الواقعي، والتنظير إلى المساواة الحادة وجعلتها تستهجن مصطلح التكامل بين الرجل والمرأة وتعتبره إهانة للمرأة.
غيّر الغرب رؤاه في المساواة التامة، وصار يتحدث عن المساواة بين المرأة والرجل؛ بمعنى تكافؤ الفرص وليس المساواة التي لا تعترف بالفروق بين الجنسين الفسيولوجية والنفسية، وتراها نقيصة في الكائن الأنثوي، يُحدث في الغرب تغييراً هائلاً، بينما لم يبلغ نخبنا النّبأ، فليس بفرض القوانين تُحفظ الحقوق.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.