لنتفق أولاً أننا أمام مشهد عراقي ليس له علاقة بمعاني الإصلاح أو القضاء على الفساد لا من قريب ولا من بعيد، بل نحن أمام صراع سياسي خانق، إن لم نقل: صراع وجود لديناصورات الكتل والحركات والأحزاب السياسية العراقية ورموزها، والتي ساقت عراق ما بعد الاحتلال إلى ما وصل إليه اليوم من فساد مالي يتحدث عن اختفاء أكثر من 100 مليار دولار من الخزينة العراقية خلال سنوات حكومات الاحتلال التي أورثت العراق إفلاساً مُدقعاً وفساداً مُتجذراً، وانقساماً طائفياً جعل من التعايش بين أبناء الوطن الواحد حلماً يستحيل التحقيق، وانعدام ثقة بين العراقيين ومن يمثلونهم من السياسيين والأحزاب ولّد حالات من اليأس من أي تغيير أو إصلاح، بل تعداه إلى انعدام الشعور حتى بالانتماء للوطن!
لقد قلنا في مقال نُشر في مجلة “المجتمع” الغراء قبل عدة أشهر: إن عراق ما بعد 10/ 6/ 2014م حيث دخول “داعش” إلى مدينة الموصل، هو عراق آخر سترسم معالمه من جديد، واليوم نقول: إن عراق ما بعد 30/ 4/ 2016م بعد اقتحام جماهير التيار الصدري للمنطقة الخضراء واقتحام حصونها واحتلال برلمانها، هو عراق آخر جديد ستُرسم ملامحه بريشة أخرى (أو ربما بذات الريشة والله أعلم!).
فجأة كل شيء في العراق تغير، فلأول مرة بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003م تصبح المنطقة الخضراء الأكثر أمناً لمؤسسات الدولة ورجالها هي المنطقة الأخطر والأقل أمناً، حيث سارع جل رجالات الدولة إلى الهروب منها بسياراتهم المصفحة عبر الطرق الفرعية إلى خارج المنطقة، بينما ركب بعضهم الزوارق النهرية ليعبروا إلى الضفة الثانية من دجلة، وسط روايات غير مؤكدة تتحدث عن لجوء البعض إلى أماكن أخرى لا نذكرها!
أما القوات الأمنية والعسكرية العراقية والتي قتلت بالأمس المتظاهرين السلميين في الأنبار وأحرقت خيمهم واتهمتهم بالإرهاب، ومتظاهرو الأنبار حينها يبتعدون بأماكن اعتصامهم عن المنطقة الخضراء عشرات الكيلومترات، واعتبرتهم حكومة حزب الدعوة وقواتها ومليشياتها المسلحة تهديداً للأمن الوطني! فجأة تغير سلوك تلك القوات (المُحايدة!)، فراحت تبارك وتساند بل وترقص مع المُقتحمين لأبواب المنطقة الخضراء وهم يُسقطون كتلها الكونكريتية ويحتلون برلمانها ويعيثون فيه فساداً.
بينما ارتبكت جل القنوات الفضائية العراقية إن لم نقل كلها لأول مرة، وضاعت بوصلتها الإعلامية، وهي تقف أمام برلمان انقسم إلى فريقين كل يدَّعي الشرعية والدستورية، وصار له رأسان ورئيسان! بينما تشرذمت الأحزاب والكتل السياسية وقد توزع أفرادها بين فريقي البرلمان، حتى صرنا نسمع من القناة الفضائية اليوم رأياً غير الذي سمعناه منها بالأمس، وتاهت تلك القنوات في تأويل أو تبرير تلك المواقف المتقلبة النابعة من الساحة العراقية ومواقف القائمين عليها.
وفجأة صار الصراع الشيعي – الشيعي الذي خرج من صمته بعد انتخابات عام 2014م البرلمانية، فجأة صار علنياً لا تستوعبه الدولة الراعية إيران ولا المرجعية الحاضنة في النجف، وتوسع الصراع فصار من الصعب احتواؤه، وصار اللعان والتخوين عنوان التعامل بين مكونات التحالف الوطني الشيعي، بينما خرج التحالف الكردستاني (المتشاكسة مكوناته) وهو أكثر تماسكاً وقد تناسى (إلى أجل مسمى) خلافاته العميقة، وهو يتذاكر مصالح الإقليم الكردستاني والكتل الكردستانية، والعراق يلتهب على فوهة بركان ثائر! أما اتحاد القوى العراقية الذي يمثل غالبية السُّنة العرب، فقد بدا موحداً وإن كان قد انثلمت عنه ثلة من أصحاب السمعة غير الطيبة، والتي طالما نصح المراقبون بإبعادهم منها قبل أن يغدروا بهم!
وقفات مع اقتحام التيار الصدري للمنطقة الخضراء:
تعود المراقبون من التيار الصدري فصولاً مسرحية سياسية لا ترقب في العراق والعراقيين إلاً ولا ذمة، منذ كان التيار معروفاً باسم جيش المهدي حيث المذابح والفظائع التي ارتكبها بحق أهل السُّنة العرب رجالاً ومساجد ومدناً، ليلعب التيار بعد جرائمه على عقول المُستغفلين من العراقيين ومن خلال وجوه جديدة وهو يتباكى على الوحدة الوطنية وحرصه على التعايش بين العراقيين، ثم عاد التيار غير المبدئي ليؤدي دوراً خبيثاً آخر في الأشهر الأخيرة، وليخطف التظاهرات السلمية التي قادها متظاهرون لا يُحسبون على حزب أو توجه ولأشهر طوال في ساحة التحرير، حيث اقتحمت جموع المتظاهرين الصدريين بمليشياته ومؤيديه ليسرقوا جهود المتظاهرين السلميين والذين سرعان ما آمنوا بالأمر الواقع وانسحبوا (هربوا) من الميدان، ليستلم مقتدى الصدر (القائد الضرورة!) مقود القيادة لتلك التظاهرات التي كادت أن تهز أركان النظام السياسي الفاسد، ليمنع خطر التقرب الفعلي من النظام السياسي الذي ما زال المُحتل الإيراني قبل المُحتل الأمريكي يراهن عليه.
وما إن مسك مقتدى الصدر وتياره اللامبدئي بزمام أمور التظاهرات الشعبية حتى استيأس العراقيون من بزوغ فجر الإصلاح، وقد كتم على أنفاسهم ظلام هذا التيار بعباءته السوداء وهي تُعلن قيادتها للمشهد العراقي، فكان اللعب بالكتلة الصدرية في البرلمان العراقي من خلال أدوار متناقضة أربكت المشهد السياسي، ثم بتظاهرات مُبهمة لا يُعرف لها رأس ولا ذيل، ثم ما كان مؤخراً من اقتحام للمنطقة الخضراء شديدة التحصين، واحتلاله لمبنى البرلمان العراقي.
ولنا مع اقتحام أزلام التيار الصدري ومليشياته للمنطقة الخضراء واحتلال البرلمان وقفات:
الأولى: لقد عُرف عن التيار الصدري أنه تيار همجي تخريبي معروف بالسلب والنهب (الفرهود)، لطبيعة مكوناته المجتمعية، ولكنه في ذات الوقت ذو طاعة عمياء لمرجعيته الدينية المُتمثلة في مقتدى الصدر، ولكن اقتحامه الأخير للمنطقة الخضراء كان مُختلفا (من حيث التخريب والسلب والنهب)، حيث كان من الواضح وجود تنسيق عالي الجودة بين صفوفه ومن خلال لجنة التنسيق العليا التي شكلها المكتب السياسي لهم، كما يلي:
1- الأماكن التي تم من خلالها اقتحام المنطقة الخضراء كانت مُحددة، بينما بقيت مناطق أخرى أقل تحصيناً آمنة ولم يستهدفها أحد.
2- المجموعة المُقتحمة للأسوار كانت معلومة العدد والتكليف وتنتظر الأوامر بالاقتحام بفارغ الصبر وبتوقيتات معينة وتوجيهات دقيقة، بدليل سرعة دخول المتظاهرين إلى مجلس النواب وسرعة انسحابهم منه، أضف إلى ذلك بقاء العدد الأكبر من المتظاهرين خارج المنطقة الخضراء، وقد هدمت بعض أسوارها وهم لا يتقدمون خطوة نحوها ولا يتأخرون!
3- ظهور بعض البرلمانيين من التيار الصدري وسط المُقتحمين داخل المنطقة الخضراء وهم يوجهونهم ويوزعون عليهم الأدوار.
4- الأضرار القليلة نسبياً التي حصلت في مبنى البرلمان العراقي بعد اقتحامه من قبل التيار الصدري، مقارنة بالسلوك التخريبي المعروف لهذا التيار.
ثانياً: السلوك الودود للقوات الأمنية والعسكرية المسؤولة عن حماية المنطقة الخضراء مع المتظاهرين والمُقتحمين الصدريين، حيث لم يكن ينقصهم إلا استقبالهم بالورود، وهذا ما دعا بعض المقربين في رئاسة الوزراء للتصريح بأن حيدر العبادي، القائد العام للقوات المُسلحة، هو من أصدر أوامره للقوات العسكرية بالسماح للمُقتحمين بالدخول، وحتى بالخروج، وعدم التعرض لهم!
ثالثاً: سلوك المُتظاهرين المُقتحمين مع البرلمانيين العراقيين، حيث كانوا يرفعون نواب التيار الصدري على أكتافهم بينما ضربوا نواباً آخرين بالعصي، ولاحقوا سيارات نواب آخرين بالحجارة وهم يحاولون الهروب.
رابعاً: فضحت تلك التظاهرات والاقتحامات أكذوبة أن الجماهير المتظاهرة تشمل كل شرائح المجتمع العراقي، وأنها ثورة كل العراقيين؛ السُّنة والشيعة، والمسلمين والمسيحيين والصابئة، فالتظاهرة خاصة بالتيار الصدري حصرياً ولمهمة محددة.
نهاية المشهد الصدري
إن هي إلا ساعات قليلة حتى انتهى المشهد الهزلي الذي قامت به فرقة الصدر للفنون المسرحية! تجمع، تظاهر، مجاميع تقفز فوق الأسوار، مجاميع تتفرج في الخارج، احتلال مبنى البرلمان العراقي، انسحاب نحو باحة المجلس ومغادرة أروقة البرلمان، التوجه إلى ساحة الاحتفالات الكبرى، ثم العودة إلى البيوت لتناول طعام العشاء!
لا أحد كان يفهم ما الذي يجري، لماذا خرج التيار الصدري؟ ما أهدافه؟ ومن يستهدف؟ ومن يؤيد؟ هل هو ضد رئيس الوزراء أم ضد رئاسة البرلمان؟ هل هو مع النواب المُنشقين أم مع من يدعون الشرعية؟ هلهلات كثيرة جعلت الحيران العراقي أشد حيرة!
أسئلة كثيرة من الممكن أن نضع أمامها كل الإجابات إلا مصلحة العراق، لقد تحرك الصدر وببراعة تحركاً سياسياً بحتاً برداء ديني وطائفي، وفرض نفسه صمام أمان للقيادة الشيعية في العراق كبديل إذا ما تساقطت الكتل الشيعية الأخرى، أو على الأقل مُرجحاً للفئة الشيعية التي تقوم عليها مصلحة مذهبه.
الصدر.. إلى أين؟
ونختم بدوامة أخرى تضاف إلى دوامات المشهد العراقي، فبعد أن انتهت مسرحية اقتحام مجلس النواب، وتحرّك متظاهرو التيار الصدري إلى ساحة الاحتفالات الكبرى المجاورة للمنطقة الخضراء، وراحوا يهتفون، وبماذا يهتفون؟ “إيران بره بره.. بغداد تبقى حرة”، “يا قاسم سليماني، آني الصدر رباني”، وسط ذهول العراقيين وهم يسمعون ويشاهدون تلك الهتافات الجماعية في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي وفي الإعلام، والغريب أن مقتدى الصدر وبعدها بساعات سافر من النجف إلى إيران، نعم إلى من هتف أتباعه بإخراجها من العراق! وقد أعلن اعتكافه قبل هذا لمدة شهرين، بينما أعلن التيار الصدري وعلى لسان رئيس مكتبه السياسي ضياء الأسدي استنكاره لتلك الهتافات ضد إيران، وقال: إنها لا تمثل التيار ولا تُمثل مقتدى الصدر!
لا أعرف ماذا أقول، أعان الله العراقيين على زوبعة الصدر التي كتمت على أنفاسهم، وهم يسألون أنفسهم: هل يستوعب فنجان إيران زوبعة الصدر (الكارتونية الهمجية!)، أم تقلب تلك الزوبعة مجموعة الفناجين المحيطة وتجعلها تلف في دوامتها؟!