ذكرنا في المقال السابق أن منطلقات هذه السلسلة الطيبة من المقالات سبعة منطلقات، ولعل أفضل تلخيص لها هو هذه الإشرافات السبع التي تعكس الآفاق المضيئة في سيرة التاجر الكويتي في كويت الماضي ويمكن إيجازها فيما يلي:
أولاً: المساهمة الفعالة للتاجر الكويتي في بناء كويت الماضي، ولا أدل على ذلك من تشريع حكام الكويت قانوني السفر والغوص لتنظيم العمل فيهما باعتبارهما الرئتين اللتين يتنفس بهما الاقتصاد الكويتي، وقد كانا شرياني الحياة الاقتصادية؛ وبالتالي الاجتماعية والسياسية بلا بديل يذكر.
ولقد كانت “قلاطة” (حصة أو سهم) السفر وقلاطة الغوص رافداً مهماً لدعم ميزانية الدولة، فضلاً عن الرسوم الجمركية، وكلها جميعاً تنطلق من نشاط التجار الكويتيين الجادين المثابرين برغم صعوبة وسائل النقل والربط مع العالم والتي تمثلت في سفن شراعية تحكمت بها قوة الرياح واتجاهاتها فجعلت الرحلة الواحدة أياماً بل أسابيع حسب وجهتها وتوقيتها خلال أيام السنة.
ثانياً: المسؤولية الاجتماعية التي كان يقوم بها التاجر الكويتي، فقد بنى تجار الكويت بالمشاركة مع بقية المواطنين المساجد في غياب الميزانية الحكومية المخصصة لبناء المساجد في كويت الماضي، وهكذا كان شأن المساجد آنذاك، وقد تزامنت مع ذلك فزعة اجتماعية بأن يهب الحي كله للمساهمة في توفير اليد العاملة لبناء مسجد الحي في غياب العمالة الوافدة المتوافرة حالياً، ومعدات البناء التي سهلت البنيان وأدخلت الميكنة فيه، ولكن سواعد الرجال الكويتيين المخلصين كانت خير بديل عن هذه الميكنة في البناء وعن تلك العمالة الوافدة.
ولولا تسخير الله تعالى للتاجر الكويتي لتوفير التمويل اللازم لهذه المساجد لما انتشرت في سائر مناطق الكويت القديمة وقراها وجزرها.
وفضلاً عن ذلك فقد دأب التاجر الكويتي على تحمل مسؤوليته في دعم الأسر الفقيرة من حوله، وبلا مبالغة كان لهذه الأسر نصيب مقسوم من مردود تجارته، وقد تمثل ذلك في المساعدات المادية المباشرة، أو من خلال توفير الحاجيات الأساسية مثل الماء عصب الحياة.
ثالثاً: الفزعة والتأمين التكافلي:
كم حمل التاريخ صوراً إيجابية جداً لما يسمى “الفزعة” حين يفزع أهل الكويت إلى دعم المتضرر أو المحتاج.
فحينما تغرق (تطبع بالتعبير الكويتي القديم) سفينة أحدهم يفزع تجار الكويت لجمع التبرعات له وبشكل يغطي أحياناً ثمن سفينته وبضاعته وقد يزيد.
كل ذلك كان يقدمه التاجر الكويتي بكل أريحية، وهو يستشعر مسؤوليته التكافلية للآخرين من حوله، وبما يجعله يشعر بشعورٍ آمن أشبه بالتأمين على نفسه لو احتاج يوماً من الأيام لمثل هذه الفزعة حين تلم به الخطوب وتصاريف الزمان.
رابعاً: الميثاق الأخلاقي والقيمي للتاجر الكويتي في كويت الماضي:
بلا مبالغة لقد كان التاجر الكويتي يلتزم بميثاق أخلاقي عظيم غير مكتوب في مستند رسمي، بل هو مكتوب في صدور أصحابه التجار الذين كانوا يلتزمون شرف الكلمة ويتمثلون القيم الإسلامية بشكل طبيعي عفوي وبلا تكلف ولم يكدر صفو نجاحهم طمع أو جشع ولا خيانة أمانة.
ولم يعرفوا المحاكم إلا نادراً، لقد التزموا تعاليم الإسلام دون كثير دراسة، فلم تكن الكتب متيسرة ولا المحاضرات العامة شائعة، ولا وسائل التواصل التي تحمل آلاف العبر والنصائح الدينية متداولة آنذاك.
إنها القيم التي التزموها فكانت نبراساً لتعاملهم الراقي والتي ظهرت جلياً في كلمة “اعتمد”:
إن هذه الكلمة “اعتمد” كانت أقوى من أي عقد قانوني ملزم؛ لأنها إذا صدرت عن التاجر الكويتي فإنه يلتزم بها مهما تغيرت الأسعار، ولو سبب ذلك له تفويت مصلحة ظاهرة للعيان، وكم حملت القصص الكثير من الدروس والعبر.
يستكمل في المقال القادم بإذن الله.