بإصرار أمريكا على تزويد قوات سوريا الديمقراطية بالأسلحة الأمريكية في سوريا، يتأكد رفض الإدارة الأمريكية الجديدة لمطالب أنقرة بعدم دعم التنظيمات الإرهابية الكردية في سوريا، وهذه نقطة خلاف كانت الحكومة التركية تأمل أن تكون إدارة الرئيس الأمريكي الجديد ترمب مغايرة فيها لسياسة الإدارة الأمريكية السابقة في عهد باراك أوباما، وهذه نقطة حرجة في العلاقات التركية الأمريكية لا بشائر فيها. على أن أمريكا سوف تتفهم الموقف التركي فيها.
وهذا الموقف، وهو تقديم الدعم للتنظيمات الإرهابية الكردية في سوريا، هي نقطة خلاف أخرى بين تركيا وروسيا أيضاً، فقد قيل إن الرئيس أردوغان طلب من نظيره الروسي بوتين، في زيارته الأخيرة إلى موسكو بتاريخ 10 مارس، وقف الدعم عن المليشيات الكردية في شمالي سوريا، وإن الرئيس الروسي بوتين رفض طلب الرئيس أردوغان، أي إن تركيا في هذه المسألة أمام تحدي موقف واحد لدى أمريكا وروسيا، ومن ثم فإن السياسة التركية لا تجد تعاوناً دولياً معها لمساعدة الشعب السوري، بل تجد من أكبر دولتين، وهما أمريكا وروسيا، إصراراً على تنفيذ أجندتهما في تقاسم النفوذ والمصالح في سوريا، ولو أدى ذلك إلى تقسيم سوريا والقضاء على مستقبلها السياسي وتشريد أهلها في الأرض.
لذلك يبقى من حق تركيا أن تبحث عن دفع الضرر عن نفسها إذا لم تتمكن من جلب المصالح لها وللشعب السوري من وجهة نظر تركية وسورية وطنية، ومن وجهة نظر الأمن القومي التركي والعربي معاً.
كما أن تركيا مطالبة الآن بالتفكير في حقيقة موقف كلتا الدولتين الروسية والأمريكية نحو تركيا، وليس نحو سوريا فقط، فهل يدل موقفها على اتفاق بينهما على معارضة السياسة التركية في سوريا أولاً، وهل يخططان لاستخدام نفوذهما في سوريا ضد الدولة التركية، وهل سعي روسيا وأمريكا لإقامة الدولة الكردية شمال سوريا خطوة سلبية في تهديد الأمن القومي التركي؟ أم أن هذا الكيان مجرد كيان سياسي تابع لروسيا أو أمريكا، وليس بالضرورة أن يكون معادياً للدولة التركية، وأنه لن يؤدي لإثارة مشاكل قومية داخل تركيا في المستقبل؟
إن روسيا تقدم الدعم العملياتي والتدريب العسكري لمليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي، وتعليمهم على الطرق الحديثة في الحرب، وتقدر بعض المصادر أن عدد هذه المليشيات الكردية قد تصل إلى مئة ألف مقاتل خلال هذا العام 2017، والأنباء تقول بوصول قوات روسية لهذه الغاية إلى سوريا، فيها خبراء وأسلحة ومعدات تقنية عسكرية وصلت إلى مدينة عفرين، وبعض التحليلات تذهب إلى أن الروس يريدون بناء قاعدة عسكرية في عفرين، وأن الأمريكيين يقيمون قواعد عسكرية لهم في الحسكة وفي مناطق تسيطر عليها مليشيات كردية شمال شرق سوريا أيضاً.
وبالرغم من إعلان القمم الروسية التركية عن كثير من التقدم في التعاون الاقتصادي، ورفع العقوبات الروسية عن تركيا، بعد حادثة إسقاط الطائرة، فإن التطبيع بطيء جداً، ولعل أقرب تفسير لذلك هو أن الرئيس بوتين ينتظر ثمناً من تركيا لذلك التطبيع، وهذا الثمن هو ثمن سياسي أولاً، وفي سوريا ثانياً، ومع المعارضة السورية المسلحة ثالثاً، فروسيا لا تريد من تركيا أن تكون ضامناً لالتزام المعارضة السورية لوقف إطلاق النار من طرف المعارضة السورية وحدها فقط، وإنما الضغط على المعارضة السورية المسلحة حتى تلتزم بالأوامر الروسية، بل والخضوع للرؤية الروسية لحل الأزمة السورية.
أي إن روسيا تريد تركيا أداة سياسية لخدمة مشاريعها في سوريا، لا طرفاً سياسياً شريكاً في البحث عن حل سياسي في سوريا، وهذه طموحات أو أطماع روسية زائد عن الحد الممكن أو المقبول في تركيا، في حين كانت الجهود التركية التي قدمت تعاوناً لروسيا في لقاء المعارضة السورية المعتدلة في أنقرة أو في أستانة تهدف إلى تعديل رؤية السياسة الروسية بحيث لا تحصر فهمها للصراع في سوريا من خلال وجهة نظر واحدة، هي الرؤية الإيرانية ومحورها الطائفي فقط، فأخطاء روسيا حتى الآن سببها انحيازها إلى جانب محور الاعتداء على الشعب السوري، وهذا لن يجعل منها دولة مستقرة في وجودها السياسي ولا العسكري في سوريا، وهذا سوف يكلف روسيا الكثير من الخسائر، فالرئيس الإيراني روحاني لن يستطيع أن يقدم لروسيا أكثر مما قدمه حتى الآن، وعودة روسيا لمغازلة إيران مرة أخرى لن يقلق تركيا، ولكنه سيبقي روسيا في نفس المأزق السوري، الذي قد يتحول في المرحلة القادمة إلى حرب استنزاف للقوات الروسية في سوريا.
إن على السياسة الروسية أن تدرك إن إيران أقرب للانخراط في المشاريع الأمريكية ضد روسيا في سوريا وغيرها، كما أن إيران تستغل الوجود الروسي لتثبيت نفوذ ديمغرافي لها لما بعد التقسيم السياسي لسوريا، ولكن هذا التغيير الديمغرافي لن يكون دائماً، وسيرحل مع رحيل إيران عن سوريا، ومن ثم لا يمكن أن تراهن عليه إيران ولا روسيا إلا بجهد عسكري دائم.
لقد وصلت روسيا إلى قناعة بأن أمريكا لا تعمل لحل سياسي في سوريا، وأن مصالحها الإستراتيجية تستدعي مواصلة الأزمة السورية، ومواصلة القتال فيها، ومحاولة روسيا في أستانة لإيجاد مخرج خارج نطاق الإشراف الأمريكي على الحل السياسي الذي يجري في جنيف كان خطوة إيجابية من قبل روسيا، ولكنها لم تنجح في الاستفادة منها، وقد كانت المساعدة التركية لروسيا جادة في لقاءاتها مع المعارضة السورية حتى التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في سوريا، بتاريخ 30 ديسمبر/ كانون الأول 2016، لأن المصلحة التركية هي في وقف إطلاق النار في سوريا، وهذا يخدم الرؤية الروسية فعلاً، وإلا فإن روسيا سوف تخوض حروباً لا نهاية لها.
ولكن عدم التزام روسيا بمواقفها المعلنة مع المعارضة السورية ومع الحكومة التركية يدل على ضعف الموقف الروسي أولاً، وأن إيران وبشار يمْلون شروطهما على روسيا لوقف إطلاق النار، ومن ثم فإن خضوع روسيا لإملاءات إيران وبشار يجعل تركيا في حِلٍّ من أمرها من التعاون مع روسيا لمساعدتها للخروج من أزمتها في سوريا، بل ويجعل تركيا تحصر تدخلها بإيجاد حل في سوريا بالمساعي السياسية الدولية، واكتفائها بما حققته عملية درع الفرات من مساعدة للشعب السوري بتحرير بعض مدنه غرب الفرات، وفتح المجال للَّاجئين السوريين العودة إليها بناءً على رغبتهم.
إن إعلان رئيس الوزراء التركي علي يلدريم، مساء يوم الأربعاء 29 مارس/ آذار 2017، بوقف عملية درع الفرات بعد أن حققت أهدافها منها، بعد ستة أشهر من إطلاقها، يدل على أن تركيا تمكنت من تحقيق أهدافها الأمنية على الحدود التركية السورية أولاً، وأنها فقدت الثقة بالتعاون مع روسيا أو أمريكا بإيجاد حل سياسي عادل للشعب السوري، يمكن أن تنخرط فيه تركيا لمساعدة الأطراف الدولية داخل سوريا.
إن السياسة التركية بذلت جهودها الكبيرة لمساعدة المجتمع الدولي في إيجاد حل سياسي للأزمة السورية، فساعدت في عقد مؤتمرات سياسية لحل الأزمة السورية في تركيا مراراً، وشاركت في عقد مؤتمرات دولية في جنيف وفيينا ولوزان وأستانة وغيرها، واستمرت الحكومة التركية بتقديم الدعم الإغاثي لأكثر من ثلاثة ملايين سوري لاجئ إلى تركيا طوال السنوات الست الماضية، ولكن الأهداف الدولية الروسية والأمريكية تتنافس على تقاسم النفوذ في سوريا، وهو ما لا تستطيع تركيا منعه، ولكنها لا تقبل أن تكون طرفاً للمشاركة فيه، فالجهد السياسي أو العسكري التركي لا يسعى لاستعمار سوريا، ولا يوافق أن يعمل لتقسيمها، ولذلك فإن إنهاء عملية درع الفرات يأتي ضمن مبادئ الإستراتيجية التركية في المنطقة وسوريا، فالموقف التركي كان – ولا يزال وسيبقى – دوراً مساعداً للشعب السوري، ولكنه لن يكون طرفاً طامعاً بتقاسم النفوذ في سوريا.
إن تأسيس روسيا لقاعدة عسكرية لها في عفرين غرب شمال سوريا، وتأسيس أمريكا لقاعدة عسكرية لها في الحسكة شمال شرقي سوريا، وهيمنة إيران على العاصمة دمشق ومحيطها الغربي المحاذي للأراضي اللبنانية وغيرها، كل ذلك يجعل تركيا تتخذ قرار الابتعاد العسكري عن الأراضي السورية، وإبقاء الجيش السوري الحر والفصائل السورية المعتدلة صاحبة القرار في حماية شعبها والدفاع عن أراضيها ضد المحتلين الأجانب، فأمريكا وروسيا اتفقتا على إقامة كيان كردي انفصالي لأهداف استعمارية، ولن تكون تركيا شريكاً ولا شاهد زور عليه، وسوف تواصل تركيا تقديم الدعم للشعب السوري الذي يرفض الاستسلام للمشاريع الاستعمارية الغربية والشرقية والصهيونية.
المصدر: الخليج أونلاين