ذكرنا في المقال السابق أن مشكلتنا تتركز في أمرين اثنين؛ أولهما رمزنا له بالملح وهم العلماء ومن في حكمهم.
وأما الثاني فأرمز له بالسّكر وهم الأمراء.
والملح والسكر الأحب إلى النفس من الأطعمة، فلا طعم لطعام دون ملح، ولا مذاق أفضل من السكر، ولا يحتاجان إلى دعاية لتناولهما.
السُّكر وهو أحد الأبيضين وأخص به هنا الأمراء والسلاطين وأصحاب الأمر والسلطة من أي نوعٍ بشكلٍ عام.
– وقد جاء في الحديث الشريف: “صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس العلماء والأمراء”؛ لأن الناس في الواقع تبع لأمرائهم وعلمائهم.
– وقد فسر الشافعي قول الله تعالى: “وأولي الأمر منكم” فقال: هم العلماء والأمراء، وقد حدد علماء السياسة الشرعية وظيفة الإمام والسلطان بحراسة الدين وسياسة الدنيا، وانظر تعبير “حراسَة”.
– وكما أن ليس لكل قارئ أو حافظٍ لباب أو أبواب من الفقه أن يكون عالماً، فكذلك فليس كل راغب بالإمارة مهما كانت مواصفاته أن يولى الإمارة في الأمة.
– فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر عندما طلبه أن يولّيه: “يا أبا ذر إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة وإنك ضعيف”، إنه ضعيف لهذه المهمة وهي الولاية وإن كان من أشد المسلمين وأصدقهم، وأكثرهم مجاهرة بالحق وأمراً به دون تردد.
– وكذلك قال أبو موسى الخولاني لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وهو يتحدث عن وظيفة الإمام ومهامه وعنايته بحاجات الناس فقال: وإن أنت لم تهنأ (تدهن) جرباها ولم تداوِ مرضاها، ولم تحبس أولاها على أخراها (أي تجمعها لئلا تأكلها الذئاب) عاقبك سيدها.
– وقد استشعر عمرو بن العاص رضي الله عنه مهمة الإمام العادل وأهميته فقال: إمامٌ عادل خير من مطرٍ وابل، وأسد حطوم خيرٌ من سلطان غَشُوم (يعني أقل خطراً)، وسلطان غشوم خير من فتنة تدوم (أي الفوضى بلا دولة).
– وقد روى عبدالله بن عباس رضي الله عنه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة”، ومن هنا تتأكد أهمية الإصلاح السياسي وتقدمه على أي إصلاح.
وهل أفسد الناسَ إلاَّ الملوك وأحبار سوء ورهبانها (العلماء والوعاظ)؟
– الإمارة محببة إلى النفس بل ربما يتفاهم الناس على المال والمتاع حتى مع نزاعهم عليها، ولا يستدعي عندهم شن الحروب إلاّ على الإمارة والملك والسلطة والحكم، وقد يقتتل الأحبة والأصول والفروع على السلطة لا على المال.
– ولما كانت العادات الغالبة لدى الحكام في بعض مراحل الحياة العربية الإسلامية تغليب العدل وحب الثقافة والعلم والاهتمام بالترجمة كان الناس يتبارون في بيتوهم باقتناء الكتب لا المجوهرات والتحف، وبحفظ القرآن وقيام الليل.
وعندما أصبحت غاية الأمراء والولاة القصور والحدائق والمظاهر قلدهم المجتمع ببناء القصور وامتلاك الحُطام وتزاحموا عليها وتسارع اندثارهم.
– يمكن في أي أمة دون استثناء ما دام حكامها بشر يصيبون ويخطئون، يعدلون ويظلمون، يتسامحون ويبطشون أن تقع منهم الأخطاء، لكنّ المجتمع المبصر الذي لا يجمع على باطل سيكون لهم بالمرصاد نصحاً ومحاسبة ومساءلة إن لزم الأمر ليعودوا للجادة، وهكذا استقرت الحالة عند كثير من دول العالم في الغرب بعد مخاضات عسيرة، فهــا أنت تجد رئيس دولة يحاكم ويحكم ويسجن سنين عدداً في أعرق ديمقراطيات العالم، ولم يحدث انقلاب ولا انفلات ولا انتقام في تلك الدولة.
– وأما عند انفلات زمام عقول العلماء وغياب ضمائرهم أو اختيارهم السلامة أو وقوعهم تحت الإغراء أو الترهيب، وعند انفراد الأمراء بالسلطة واتباع الهوى وفقدان البوصلة، وانتشار الظلم والمحسوبية فعندها يصاب هؤلاء بداء السكري القاتل وإن كان ببطء ولا تتوقف آثار المرض على هذين الفريقين (العلماء والأمراء) إنما تمتد آثار الفتنة للمجتمع كله (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {25}) (الأنفال).
وفي الحديث الشريف: “كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن اللَّه بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم” (رواه أبو داود والترمذي).
– وقد حسم مسألة الأمراء ابن خلدون بقوله: دولة الإسلام بالظلم تزول، ودولة الكفر بالعدل تطول.
إن استقام حال الأبيضين الملح والسكر فالمجتمع بخير، وإلا فقد أصبحت مهمة المجتمع ورواده وطلائعه ومفكروه صعبة جداً، وعندها يقف على حافة الخطر إن لم يتداركه العقلاء والغيورون.
صحيح أن العالم الصادق النافع (الملح) ليس بحاجة إلى من يُنَصِّبه ويوظفه ويشهد له، فعلمه وعمله وصدقه والتزامه هي مؤهلاته، فإن قصر فيمكن أن تخوفه بالله ثم بالعلم الذي يحمل، بينما الوالي والسلطان والحاكم يفترض أن يختاره الناس وهم مسؤولون عن اختيارهم، فإن قصروا أو انحرف فرأي الشعب وتصميم الشعب وثقة الشعب يمكن أن تصحح مسيره، أو تعفيه مما هو فيه مع أن الولاية حلوة الرضاع (سكر) مرة العظام.
– أما نحن عامة الشعب، فقد قال عنا لقمان الحكيم: إياكم وكثرة الاعتذار فإن الكذب كثيراً ما يخالط المعاذير، ولا عذر لأحد منّا حتى لو ضعف العلماء وجار الأمراء وتآمر المتآمرون وصمت المحايدون.
– امتحن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد ولاته فقال له: ماذا تفعل إن جاءك الناس بسارق أو ناهب؟ قال: أقطع يده، فقال عمر: إذا جاءني من رعيتك من هو جائع عاطل فسأقطع يدك، إنَّ الله استخلفنا على خلقه لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم.
ولله در العالم الرباني الغزالي رحمه الله الذي قال: كل دعوة تحبب الفقر إلى الناس٬ أو تُرضّيهم بالدون من المعيشة٬ أو تقنعهم بالهون في الحياة٬ أو تصبرهم على قبول البخس، والرضا بالدنيّة وهذا ما يقوم به بعض علماء السلاطين باسم الدين وعملاء السلاطين باسم المصلحة٬ فهي دعوة فاجرة٬ يراد بها التمكين للظلم الاجتماعي٬ وإرهاق الجماهير الكادحة في خدمة فرد أو أفراد، وهي قبل ذلك كله كذب على الإسلام٬ وافتراء على الله، وبذلك المنطق الفاسد الذي سلكه ذلك المحسوب على الدعاة والعلماء، يتم قطع الطريق أمام الاعتراض على الأوضاع الجائرة، والقرارات المستبدة والفساد الإداري، وتحميل الأقدار التبعة.
وإنّ العالم الذي يتذرع بالأقدار في فساد الأوضاع الاقتصادية أشبه بمن يجيز لنفسه ولغيره ارتكاب الموبقات بدعوى أنها قدر مكتوب.
وإنَّها أمانة، فأين المُشَمّرون؟